عبدالوهاب بدرخان

يمكن «حزب الله» اللبناني، وقد تخلص من لقمان سليم، أن يستمر في غيه وبغيه وإرهابه. يمكن عملاءه وعملاء النظام السوري أن يهندسوا فتنة في طرابلس لاجتراح «إمارة داعشية» فيها، فقط لأنها عصية على «سلطته» ورافضة لمشروعه المذهبي. لدى «الحزب» مزيد من الوقت، مع حلفائه/‏ أتباعه، لاستدراج لبنان إلى الانهيار الشامل، حتى لا يبقى من «الدولة»، من الأمن والأمان، ومن مقومات العيش، إلا ما يلزم من المظاهر والهياكل لإنشاء «نظامه» و«دولته» على شاطئ المتوسط. لم يكن لقمان سليم قائد ميليشيا بل صوتاً عالياً كشف جرائم «حزب الله» وفضح أدواره الإيرانية، فأسكته. ومثل لقمان، قبل رحيله، تبلغ اللبنانيون بطرق شتى أن أزمة بلدهم ليست بين أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة، ولا حتى بين أولويات تفاوضها مع إيران.

ومع اللبنانيين، أدرك السوريون والعراقيون والفلسطينيون أن مصائر بلدانهم مؤجلة، متروكة لأوقات لاحقة، على رغم مما تشهده هي الأخرى من سباقات محمومة بين ما تريده الشعوب وما تخربه الميليشيات باسم «النفوذ» الإيراني. لم يرد أي ذكر لهم في عناوين السياسة الخارجية الأمريكية، كما حددها الرئيس جو بايدن، حتى أنه لم يشر إلى إيران وقنبلتها «الوشيكة»، مع أنها أولويته الخارجية القصوى، كما يصفها أركان إدارته. كل وقت يضيع يعني مزيداً من الفرص لإيران ووكلائها لإنهاك الشعوب المغدورة وللعيث فساداً في إمكانات الحلول السياسية السلمية، بل لتجميع الرهائن والأوراق كي يصبح أي تفاوض مساومة على ما ليس لإيران وما لم يكن لها أصلا وما لا تستحقه، حتى لو جعلت من أتباعها المذهبيين آلات قتل لاختراق مجتمعاتهم وخداع مواطنيهم لإخضاعهم.

ربما يقال إنه ليست لإدارة بايدن حاليا مقاربة جديدة للأزمة السورية، فهي لا ترغب في فتح مساومة تريدها روسيا شاملة وأوسع من سورية، ولا تريد طرح تسويات سبق أن جربت لكن موسكو تلاعبت بها وحرفتها عن هدفها (القرار 2254 بكامل بنوده، كمثال). وإذ أقامت روسيا تفاهمات استباقية ومتضادة مع إيران وإسرائيل وتركيا للإيحاء بأنها جاهزة للمساومة الكبرى مع أمريكا، بل مستعدة لتجاوز هذه الدول، إلا أن أمريكا التي اعترفت لروسيا بدورها في سورية وتركتها تغرق فيه، لم تفوض إليها توزيع الأدوار على القوى الإقليمية وتحديدها.

أما بالنسبة إلى العراق فربما تعتبر إدارة بايدن أن الوضع الراهن غير مقلق إلى حد إعطائه أولوية. فحكومة بغداد لن تنهار تحت ضغط الميليشيات بل هي قادرة على ضربها لكنها تدير المواجهة معها بحسابات دولة لا عصابة، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تكون ضحية الصراع الأمريكي- الإيراني. طهران قادرة أيضاً لكن التطورات خلال العامين الماضيين أظهرت لها تغييراً عميقاً في المزاج العراقي يجب أن تتعامل معه بواقعية، فلا مصلحة لها في تفجير المواجهة لأن الأحزاب الموالية لها فشلت في إدارة دولة العراق، ولأن ميليشياتها معدة لتخريب الدولة لا لإدارتها. كل المراجعات التي أجرتها إدارة بايدن أفضت إلى إلغاء أو تجميد قرارات اتخذتها الإدارة السابقة، باستثناء ما يتعلق بمكاسب إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وما أفسد حتى الآن أي تسوية سلمية ممكنة. لكن من غير الواضح بعد ما إذا كانت واشنطن ستواصل دعم الضربات الإسرائيلية للمصالح والمواقع الإيرانية في سورية، فهذا أمر ينسق مع البنتاجون وبين الأجهزة، أي أن فيه «مصلحة أمريكية»، فهل أن السعي إلى مهادنة إيران وإعادة تأهيلها ولو على حساب جيرانها (وفقاً لنظرية روبرت مالي) «مصلحة» تستوجب عدم التعرض لها في سورية؟

حتى في إعلانه أولوية إنهاء حرب اليمن كان لافتاً أن بايدن لم يشر إلى إيران، كأنها غير معنية بها. لعل في ذلك إشارة إلى أن أمريكا تعتبر اليمن في مساحتها الإستراتيجية ولا تريد لإيران وجوداً فيها، تحديداً في باب المندب. أما إذا كانت واشنطن تريد اليمن منطلقاً لتطبيق نظرية باراك أوباما في شأن «تقاسم النفوذ» الإقليمي فإنها ستدخل «إنهاء الحرب» في متاهة، خصوصاً إذا ربطت ذلك بالتفاوض النووي. كانت إدارة أوباما كتمت ما تعرفه عن سفن الأسلحة الإيرانية للحوثيين ولسواهم في جنوب اليمن وحتى لأطراف مرتبطة بـ«القاعدة». وخلال المرحلة الانتقالية في اليمن، كانت تلك الإدارة ودول الخليج شركاء في دعم الحكومة الشرعية والحوار الوطني وتطبيق مخرجاته، إلا أن واشنطن كانت آنذاك تدعم تفاوضها مع إيران بمجاملة الحوثيين وغض النظر عن خطواتهم الحثيثة نحو الانقلاب على الشرعية. يخشى أن يكون إلغاء تصنيف جماعة الحوثيين كمنظمة إرهابية تجديداً لنمط المجاملة ذاك.

الأزمة الإنسانية والحاجة إلى تحريك الحل السياسي يشكلان دافعاً مهماً وضرورياً لإنهاء الحرب، وثمة مغزى اختباري لإيران في اختيار بايدن اليمن منطلقا لدبلوماسيته. فعندما أعلن خياره هذا أرفقه أولا، بتعهد أمريكا دعم السعودية في الدفاع عن سيادتها وشعبها، وثانياـ بوقف مبيعات الأسلحة للمملكة. ولم تتأخر الرياض في الترحيب بإنهاء الحرب، فهو هدفها المعلن منذ أعوام، أو في إبداء استعدادها لتسهيل حل سياسي شامل في اليمن، وكانت وفرت من خلال «اتفاق الرياض» نموذجا يمكن اتباعه. لكن هل يريد الحوثيون فعلا إنهاء الحرب، وهل تريد إيران؟

أي اتفاق ممكن أو محتمل لا بد أن يبنى على أساس «اليمن لليمنيين»، وأي اتفاق قابل للعيش وإعادة الاستقرار لا بد أن يكون متوازنا ومرتكزا إلى الشرعية اليمنية والدولية. في مفاوضات الكويت (2016) برهن الحوثيون عدم اعترافهم بالشرعية، وحين طالبوا بالمناصفة مع الحكومة كان لديهم «حلفاء» محليون، لكنهم يستفردون اليوم بكل السلطة في مناطق سيطرتهم ويرفضون أي شراكة وطنية تنهي احتكارهم للسلطة، على أنهم شريحة محدودة من الشعب اليمني. أما إيران، التي كانت عرضت على الأوروبيين «تعاونا» شكليا بالنسبة إلى اليمن، فربما تستجيب أهداف بايدن لكن بشروطها: رفع العقوبات وحل سياسي يعترف لها مسبقا بـ«نفوذ» في اليمن عبر تلبية مطالب الحوثيين.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»