عبدالوهاب بدرخان

مع اجتياز الإصابات بالفيروس عتبة المئة مليون عالميا، تعود إلى الذاكرة تقديرات بعض العلماء منذ ربيع 2020 بأن العدد سيتصاعد إلى 200 مليون، ولم يكن معلوما آنذاك متى يمكن التوصل إلى لقاح وسط توقّعات بأن يظهر قبل نهاية العام، وهو ما حصل فعلا. حتى يونيو كانت الإصابات في حدود عشرة ملايين، فاعتُبرت ذروة الوباء على الرغم من تحذيرات جدية من موجات تالية. في الأثناء راحت الاقتصادات تئن وترسل إشارات انهيار، فقررت الحكومات بالتزامن وجوب إنهاء الإغلاق، مقلدة بعضها بعضا وآملة من جهة بأن تقضي حرارة الصيف على الفيروس، ومن جهة أخرى بأن فتح الأسواق ينعش حركتها، لكن النتيجة كانت قفزات سريعة في الإصابات وضغوطا متزايدة على النظام الصحي في البلدان كافة، سواء تلك القادرة التي حاولت حكوماتها وضع إستراتيجيات للمواجهة أو تلك غير الميسورة التي تحتاج إلى مساعدات لتدبر أحوالها.

ليس هناك سر وراء رقم الـ200 مليون، مع أن البحث يظهر أنه يتكرر بشكل ملاحظ في حالات كثيرة: إعانات البنك الدولي للدول في مكافحتها للوباء، مساهمات حكومية في تعويض خسائر الشركات، توقعات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للذين ستدفعهم الجائحة إلى الفقر المدقع، دعم عاجل للأجسام الطبية، أعداد اللقاحات التي تعهدت الشركات توفيرها في مهل زمنية لا تتعدى الربع الأول من هذه السنة... وتبين مع الوقت أنها مجرد تقديرات سرعان ما تبخرت واقعيتها ووجب تحديثها، فأكثر الحكومات استشرافا وانتظاما وملاءة فوجئت تكرارا بتحديات الوباء واضطرت للجوء إلى احتياطها المالي، فكيف بالدول التي أهملت بناها التحتية أو نهبها الفساد وتعودت شعوبها ألا تتوقع سوى القليل من حكوماتها.

بعد المعارك والسجالات حول «مصدر» الفيروس، وسعي الصين إلى حرف الاتهامات عنها أو على الأقل إلى عدم تسييسها، قصد فريق منظمة الصحة العالمية ووهان وليس مكانا آخر بحثا عن معلومات لا تزال المختبرات تنتظرها كي تحسن لقاحاتها. رفضت بكين أن يبتزها دونالد ترمب أو الاتحاد الأوروبي، واستخدمت في كل اتجاه ديبلوماسية الكمامات ثم المساعدات ثم اللقاح لإسكات مَن يشيرون إلى خطأ أو تسرب حصل في أحد مختبراتها، لذلك هي قلقة من أن يفتح التحقيق الأممي مجددا ملف «مسؤوليتها» والعواقب التي يمكن أن تجرها عليها (تعويضات وما إلى ذلك...). فهل أن الدولة الأكثر غنى، الحاضنة سلالة «سارس» الفيروسية، انشغلت كليا بإنتاجية مصانعها وأهملت معايير السلامة في مختبراتها والنظافة في أسواقها؟ السؤال معلق منذ ظهور الـ«كوفيد - 19» عشية العام 2020 الذي غير وجه العالم، وسواء أجيب عنه أم لا، باتت الصين أمام مسؤولية مستقبلية مضاعفة.

لكن المعارك المحتدمة حاليا حول توفير اللقاحات وتوزيعها شغلت الدول الغنية مؤقتا وظهرت طبيعة السباق في ما بينها، بمقدار ما كشفت «الفشل الأخلاقي» للعالم: كما لو أنه لم يتعلم شيئا من الجائحة. لمن الأولوية في الحصول على اللقاح؟ الجدل ناشب منذ مايو 2020، وفقا لبيانات منظمة الصحة التي حذرت باكرا من محاولات اكتناز اللقاح على «أساس قومي». ومنذ يونيو أصبح مؤكدا، بحسب «التحالف العالمي للقاحات والتحصين» (غافي)، أن «نسبة ثابتة» ستخصص لتلقيح معظم سكان البلدان الغنية، ونسبة أقل لتلقيح «ذوي الأولوية القصوى» في البلدان الفقيرة (نصف سكان العالم) التي ستحصل على اللقاحات بعد أن تستهلك البلدان الغنية حاجتها منها. إذا، وُضعت القواعد باكراً وأخذت بمعياري الحصة من الاقتصاد العالمي والمساهمات المليارية في الشركات المنتجة من دون شروط تمنعها من الاحتكار. لحسن الحظ أن هناك دولا غنية ولو قليلة لبت مناشدات «غافي» للتبرع بلقاحات للدول الفقيرة. لكن، إلامَ؟

في الأيام الأخيرة ظهرت بوادر احتكارات ومناحرات بين الدول الكبرى، إذ تباطأت «فايزر» الأمريكية في توفير لقاحها، ودبّ الخلاف بين «استرازينيكا» البريطانية والاتحاد الأوروبي. وفي خضم المنافسات التجارية المحمومة، تعذر التوصل إلى يقين حيال أي لقاح، أكان الأمريكي أو البريطاني، الصيني أو الروسي. فأي منها فاعل حقا في الحماية من الفيروس، ولأي فترة زمنية، ثم ماذا بعدها، وماذا عن تحورات الفيروس؟ كما الحرب الباردة المعروفة، تدور «حروب اللقاح» بين غرب يستعيد رأسمالية كان بدا أنه يتخلى عن «وحشيتها» وشرق يستعيد اشتراكية كان بدا أنه يتخلص من «تخلفها». هي حروب باردة أيضا تخللتها عمليات تجسس متبادلة وحملات ضارية للتشكيك وزعزعة الثقة بالطرف الآخر، ولا تزال منبرا لكم هائل من الإشاعات والأخبار الكاذبة أو الصحيحة المتناقضة.

وكما انقسمت المجتمعات بين منكر ومصدق وجود الفيروس، وبين مؤيدي الإغلاق ومعارضيه، ثمة انقسامات جديدة بين المقبلين على اللقاح ورافضيه، فيما تتوزع الألوان خريطة العالم وفقا لانتشار اللقاحات بجنسياتها المختلفة. لا أحد يفكر الآن في ما إذا كان تنوع اللقاحات سيخلف فوارق بين متلقيها مع نسب مناعة متفاوتة بين 70 و95 في المئة، وفي نتائجها على المدى المتوسط. وإذ تعرض الصحافة الأمريكية والغربية يوميا شكاوى من نقص اللقاحات ومن «الفوضى» في توزيعها، فإن الفوضى تعم بلدانا كثيرة بل قد تتحول في بعض منها إلى تمييز طائفي (لبنان مثلا) أو عنصري (إسرائيل - فلسطين) أو إلى ابتزاز (إسرائيل - صفقة الأسرى مع فصائل غزة).

كان العالم يتطلع إلى أواخر 2020 كبداية انفراج في الأزمة، ويحلم بـ2021 باعتبارها سنة الخروج من الوباء، فإذا بتقارير العلماء تركز منذ الآن على 2022 كموعد حذر ومرتبط باتساع رقعة التلقيح، بل خصوصا بالتوصل إلى اللقاح «النهائي». صحيح أن التقدم العلمي تمكن من إثبات نفسه أخيرا بإنتاج لقاح قبل مرور عام على تفشي الفيروس، لكن العلماء ليسوا متأكدين متى تمكن العودة إلى «حياة طبيعية». وحدها الاستقطابات السياسية الحادة حافظت على حياتها الطبيعية، فالأمم المتحدة حاولت وأخفقت في إقناع الدول الفاعلة بـ«هدنات كورونية» لوقف النزاعات المسلحة، وحاولت وأخفقت في نسج «تضامن دولي» في استراتيجيات مواجهة الوباء وما بعده، وتحاول الآن وتخفق في توزيع عادل للقاحات وجعلها بارقة أمل للعالم.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»