نجيب محفوظ بلا أدنى شك مؤسس أدب «الحارة الشعبية» أو الرواية التي تدور أحدثها وسط الحارة الشعبية وما تتضمنه من شخصيات بسيطة تكافح من أجل لقمة العيش، وتعيش في حارة شعبية تحتضن همومهم وتطلعاتهم، هذه الحارة تختزل الكون والحياة وفلسفة الوجود بالنسبة لهؤلاء الناس البسطاء. وفي محيط الحارة الشعبية يخلق الكاتب عالمه الروائي وشخصياته ويزرع أفكاره ويناقش قضايا المجتمع وإشكالياته.
رواية «الحارة الشعبية» ذات طابع تأسيسي فتح من خلالها نجيب محفوظ الآفاق للروائيين والكُتاب العرب، ولكنه في السياق ذاته جعلهم أسرى لحارته الشعبية، ولم يقدروا على الخروج من أسوارها أو إبداع عوالم جديدة بديلة لعالم الحارة الشعبية. بدأ نجيب محفوظ الكتابة عن الحارة الشعبية مطلع الخمسينيات الميلادية وهي مرحلة مبكرة جدًا ولكن أثرها استمر لعقود زمنية عديدة حتى يومنا هذا، وآخر الأعمال التليفزيونية ذات الطابع المحفوظي، مسلسل (شارع الأعشى) الذي يعرض في رمضان، المستوحى من رواية «غراميات شارع الأعشى» للكاتبة بدرية البشر.
مسلسل «شارع الأعشى» في الحقيقة لم يخرج عن إطار الحارة الشعبية التي جعلها محفوظ محورًا مكانيًا لأعماله الأدبية. فتأثير محفوظ ظل طاغيًا على الروائيين العرب عموما، وتسمية الروايات بأسماء الشوارع والأحياء علامة فارقة في الرواية المحفوظية: خان الخليلي، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، زقاق المدق، ميرامار، الكرنك. كلها روايات تحمل عناوين لأسماء شوارع وأحياء وأماكن مشهورة تقع في حارات القاهرة الشعبية. نجد ما يقابلها في الروايات المحلية كشارع الأعشى وشارع العطايف والشميسي والكراديب والعدامة.
تجددت موضوعات «الحارة الشعبية» في آخر المسلسلات الرمضانية (شارع الأعشى) وهو المسلسل الذي حمل اللمسات المحفوظية المعهودة، أولها تسمية المسلسل باسم شارع حيوي يقع في حارة شعبية وهو «شارع الأعشى» أحد الشوارع الرئيسة في حي منفوحة القديم بالرياض. والإطار العام للعمل لم يخرج عن سياقات الحارة الشعبية في روايات نجيب محفوظ وأهمها مشهد لقاء العاشقين في السطوح، أشهر مشهد في مسلسل شارع الأعشى، وهو مشهد مستعار من رواية «بين القصرين» التي تضمنت لقاء العاشقين -فهمي ومريم- في السطح وتبادل رسائل الحب ونظرات الحب والاشتياق. وهنا نريد أن نسلط الضوء على ثقافة السطوح ما بين الثقافتين -السعودية والمصرية- فالعمارات السكنية في الحارات الشعبية في القاهرة التي شهدت جل أعمال نجيب محفوظ، تتصف بالتقارب لدرجة تسمح بوجود لقاء بين السكان في السطح أو البلكونة أو بين النوافذ، فالسطوح والبلكونات في مدينة مثل القاهرة القديمة تتمتع بنشاط اجتماعي كبير يسمح بتبادل النظرات والحديث والتعارف بين الجيران.
بعكس العمارات السكنية في مدينة الرياض التي تتصف بالاستقلال الكامل بين الوحدات السكنية والتباعد بين السطوح بصورة لا تسمح بتكوين العلاقات أو تبادل الأحاديث والنظرات بين الجيران. فالسطح والبلكونة في الثقافة السعودية لا يحظيان بأي نشاط ثقافي فهما أماكن معطلة اجتماعيا ولا تسمح بأي اندماج أو تداخل بين الجيران. بالتالي توظيف الكاتبة بدرية البشر للسطح ليكون مكانًا للقاء العاشقين لم يكن مقنعًا بدرجة كبيرة.