بينما كنت أقلب بين المحطات الفضائية وأتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وفي خضم البرامج الحوارية التي تملأ شاشاتنا العربية والخليجية في شهر رمضان، ظهر أمامي برنامج «قهوة مع هند» على قناة أبوظبي الفضائية، تقدمه هند خليفات. لفتتني حلقة حوارها مع الفنان السوري أيمن زيدان، لكنني لم أكتفِ بها، فقد دفعتني دهشتي بهذا الأسلوب المختلف إلى متابعة عدة حلقات أخرى من برنامجها. وهنا أقولها بكل صراحة: استطاعت أن تضع بصمة مميزة تتجاوز مجرد طرح الأسئلة وتلقي الإجابات، وقدمت نموذجًا يُعيد تعريف الحوار الإعلامي، لا باعتباره استجوابًا، بل مساحة للنقاش وتبادل الأفكار.

ما شدني في أسلوب خليفات هو تخليها عن الصورة النمطية للمحاور الذي يجلس على كرسي «السلطة الرابعة»، متشبثًا بموقع السائل فقط. كثير من المحاورين- خصوصا في البرامج الخليجية والسعودية- يقعون في فخ الرغبة بالسيطرة على مجريات الحوار، حيث يضعون الضيف في زاوية الأسئلة الضيقة وكأنه في جلسة استجواب. وحين يُبدي الضيف تفاعلًا أو يطرح تساؤلًا، يُسارع المحاور إلى إطلاق جملته الشهيرة والمستفزة: «أنا من يطرح الأسئلة هنا، وليس أنت». هذه الجملة وحدها كافية لقتل روح الحوار، وتحويله إلى تحقيق رسمي لا يمت بصلة لفن المحاورة. والأسوأ أن المتابع يُدرك بسهولة أن المحاور نفسه- في كثير من الأحيان- غير مقتنع بأفكار ضيفه، بدليل توجيهه أسئلة استفزازية، وكأنه يسعى لجرّه إلى إجابات قد لا تُحمد عقباها. على النقيض تمامًا، نجد هند خليفات تُبدع في خلق جو من الألفة والارتياح، حيث يتدفق الحوار بشكل طبيعي، وبلغة راقية يتذوقها المشاهد، وتُصبح الحدود الصارمة بين المحاور والضيف أكثر مرونة. إذ كان حوارها مع زيدان نموذجًا حيًا لهذا النهج المختلف؛ شاهدنا جلسة نقاش متبادل، حيث أخذ زيدان زمام المبادرة بطرح الأسئلة، ولم تتردد خليفات في التفاعل لتُصبح هي المجيبة أحيانًا. في هذا التبادل الذكي، رأينا حوارًا ناضجًا يُثري المشاهد، ويكشف عن عمق في التفكير والطرح لدى الطرفين. هذه القدرة على منح الضيف مساحة للحديث- بل وتشجيعه على طرح الأسئلة- تعكس ثقة المحاور بنفسه وبأدواته. فالمحاور الناجح ليس مجرد سائل ينتظر الإجابات، بل شريك في صناعة محتوى ممتع ومفيد. وهنا يظهر الفارق الجوهري بين المحاور الحقيقي والمراسل الصحفي أو المذيع التقليدي. المراسل يُعنى بالخبر وجمع المعلومات ونقل الوقائع والأحداث، وقد يطرح أسئلة محددة لاستخلاص حقائق معينة. أما المذيع، فيلتزم غالبًا بسيناريو مكتوب يُركز فيه على إدارة الوقت والبث. على الجانب الآخر، المحاور شخص مثقف، يُجيد فن الاستماع قبل الحديث، يعرف كيف يُفسح المجال لضيفه للتعبير بكل ارتياح، دون أن يفقد زمام السيطرة على مسار الحوار. هند خليفات، بهذا النهج، تُقدم درسًا مهمًا في فن المحاورة: الحوار ليس ساحة معركة بين السائل والمجيب، بل مساحة مفتوحة لتلاقح الأفكار. قدرتها على إشعار الضيف بالأمان والحرية، تُثمر نقاشًا عميقًا وإنسانيًا، بعيدًا عن الاستعراض. في زمن أصبحت فيه البرامج الحوارية مجرد منصات لاستفزاز الضيوف أو فرض الأجندات، يظهر نموذج هند خليفات ليُذكرنا بأن الحوار فعلٌ تشاركي، وأن نجاح المحاور يُقاس بقدرته على إدارة هذا التفاعل برقي واحترام. ولهذا، «قهوة مع هند» ليس مجرد برنامج نمطي، بل تجربة حوارية مختلفة تستحق التقدير والمتابعة.