﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ «البقرة 185»
يعاود شهر رمضان الزيارة كل عام مثل ضيف عزيز، تحمله نسمة خفيفة وهلال يبتسم في السماء. إنه ليس مجرد شهر كباقي الشهور، ولا شهر نصوم فيه عن الأكل والشرب، بل هو أكثر من ذلك بكثير. إنه وقت نرتاح فيه من زحمة الحياة، ننظر إلى أنفسنا ونفكر: كيف يمكننا استغلال أوقاته؟ وماذا نستطيع أن نقدم فيه؟
يجب ألّا يمر علينا شهر رمضان ونحن نعتبره مجرد تكليف واجب الأداء، بل يجب أن نعتبره هدية الله إلينا. هدية نتعلم من خلالها أن تحمّل الجوع والعطش ليسا الأهم في رحلة الصيام، إنما الأهم هو أن هذه الهدية جاءت لتمنحنا فرصة جديدة لمراجعة حساباتنا، فنصل ما انقطع، ونبني جسور التواصل، ونعمل جاهدين على إصلاح أنفسنا والارتقاء بأرواحنا.
في لحظات الصمت، عندما نهدأ قليلًا، نسمع صوتًا داخلنا يقول: «كن أفضل، سامح، ساعد غيرك». إنه شهر يجعلنا نشعر ببعضنا، نمد أيدينا لبعض، ونفتح قلوبنا للجميع. نتلمس حاجة المحتاج، ونقدم باليمين ما لا تعلم عنه الشمال.
تخيل معي أيها القارئ الكريم: عندما يجلس الواحد منّا على مائدة الإفطار مع الأهل والأحباب، أو عندما يقف في الصلاة جنبًا إلى جنب مع الناس في المسجد، ألا يشعر بوحدة الهدف والمصير وتقارب الأرواح والقلوب؟ وأن رمضان يعاودنا كل عام ليذكرنا أن الحياة ليست صراع يفترس فيها القوي الضعيف، بل هي أن نكون معًا، أن نعطي، أن نبتسم رغم التعب.
لماذا هذه الفرحة في قلوبنا بمقدم هذا الشهر الكريم خلافاً عن باقي الشهور؟ لماذا نبارك لبعضنا البعض؟ لماذا نشعر بشعور مختلف متسامي؟ إننا نشعر بكل ذلك لأن رمضان يمنحنا فرصة جديدة، فرصة نتدارك فيها بعض شوائب الحياة، فنسعى إلى أن نترك الزعل، ننسى الغلطات، ونبدأ صفحة بيضاء، نسطر فيها كل جميل، لنريح قلوبنا ونريح من حولنا.
الفرح الذي يغمر قلوبنا بقدوم رمضان ليس صدفة، بل هو انعكاس لتجدد يأتي معه، فرصة للتوبة، لترك العادات السيئة وللبدء من جديد كمن يفتح نافذة في غرفة مظلمة يدخل علينا من خلالها نور الشهر الكريم بنسيم يحمل الأمل والسكينة، ويجعلنا نشعر أن الحياة تستحق الانتظار.
في كل عام، يأتي رمضان كصديق قديم يعود بحكايات جديدة، يملأ أيامنا بإيقاع مختلف، يجمع بين الخشوع والبهجة، بين الصبر والفرح، ليصبح أكثر من مجرد شهر في التقويم، بل لحظة يعيشها الملايين كمهرجان للروح والحياة.
وقبل كل هذا، هناك ذكريات تاريخية وثقافية تجعل رمضان أكثر تميزًا، فهو الشهر الذي نزل فيه القرآن، حاملًا معه رسالة الإيمان والتأمل، الشهر الذي تروي فيه الأجيال قصصًا عن أيام الصيام، عن الجدات اللواتي كن يقمن الليل بالصلاة، وعن الأطفال ومغامراتهم الأولى في تعلم الصيام. هذه الروابط تجعلنا نترقب رمضان كحدث كبير، كموسم يحمل معه أملًا جديدًا.
رمضان هو شهر يعلّم الصغير والكبير معنى الصبر، لأن الحياة - مثل الصيام - تحتاج قلبًا قويًا ونفسًا راضية. إننا نعيش أيام هذا الشهر الكريم ونحن ربما لا نفهم كل شيء عنه، لكننا نشعر به، نشعر أن هناك شيئًا كبيرًا يحتضننا، يقربنا من الله ومن بعض.
عندما نرى الهلال في السماء في أولى ليالي رمضان مبتسماً، لا نرى مجرد قمر، بل نورًا يقول لنا: «لا تخف، غدًا أجمل». رمضان هو الضيف الذي لا يرحل إلا وقد ترك فينا شيئًا جميلًا، شيئًا يبقى معنا حتى نلتقيه مرة أخرى.
وكل عام وأنتم بخير