في زاوية غرفة عتيقة تفوح منها رائحة الكتب والأوراق القديمة، جلس الموسيقار شومان مستندًا إلى طاولة خشبية شديدة البساطة. كانت النافذة مفتوحة على حديقة صغيرة، تُلقي نسائم الشتاء بردها على وجهه، لكنه لم يشعر بشيء. عيناه كانتا مثبتتين على كومة من الأوراق أمامه، وأصابعه تعبث بقلم الريشة الذي بدا وكأنه يقاومه.

«لا شيء يتجمع في رأسي» قال لنفسه بصوت خافت، وكأنما يشكو إلى صديق غير مرئي. أمامه كانت النوتات الموسيقية مبعثرة، بعضها يحمل جملًا موسيقية قصيرة، وبعضها الآخر لا يحتوي إلا على خطوط متقاطعة. كانت الفكرة واضحة في ذهنه: سمفونية عظيمة ستحرك أرواح الناس وتبقى خالدة. لكنه كان يواجه معضلة... كيف يرتب هذه الفوضى؟

تسلل إلى الغرفة صديقه القديم فرانز، عازف الكمان الذي لطالما كان ملاذ شومان حين تشتد به الأزمات. جلس فرانز على كرسي قريب دون أن يطلب الإذن، وبهدوء قال: «مشكلتك ليست في النغمات، بل في ترتيبها. الفوضى يا صديقي هي عدو الإبداع».


نظر إليه شومان وقال: «وكيف أبدأ؟ كلما أمسكت فكرة، انزلقت مني وكأنها ماء!».

ابتسم فرانز وقال: «تمامًا كما تُدير أوركسترا. القائد لا يعزف كل آلة، لكنه ينظم الجميع. افعل المثل مع أفكارك»،

كانت هذه الجملة أشبه بشرارة أوقدت في ذهن شومان نوراً جديداً. أدار عينيه نحو أوراقه، وكأنه يرى فيها الآن شيئاً مختلفاً. بدأ أولًا بتصنيف الأفكار: الجمل الموسيقية القوية هنا، النغمات الرقيقة هناك، والانتقالات في ركن آخر. مثل قائد أوركسترا يُوزع الأدوار على عازفيه، بدأ يوزع أفكاره وفق أولوياتها.

ثم، وضع إطاراً زمنيًا لإنجاز كل جزء، «اليوم سأُكمل المقدمة فقط، وغداً أعمل على الجزء الأوسط» كان يردد هذه الكلمات كأنما يعطي لنفسه أوامر صارمة.

وعندما انغمس في العمل، أدرك أن المشكلة ليست في نقص الأفكار، بل في أنه كان يحاول إنجاز كل شيء دفعة واحدة. وهنا كان الدرس: الإدارة ليست في السرعة، بل في الترتيب والتركيز.

وبعد أيام من الجهد المستمر، خرجت السمفونية إلى النور. كانت تحفة موسيقية، تنبض بالحياة والتناغم. وحين عزفها أمام جمهوره لأول مرة، شعر شومان وكأنه أعاد ترتيب حياته بأكملها، لا أوراقه فقط.

تُعلّمنا هذه القصة أن الإدارة ليست مجرد مهارة مهنية، بل هي فن إيجاد النظام وسط الفوضى، وتحويل الأحلام إلى واقع ملموس بخطوات ثابتة. مثلما فعل شومان مع سمفونيته، يمكننا نحن أيضاً أن نحول تحدياتنا اليومية إلى نجاحات، إذا امتلكنا الرؤية والتنظيم والصبر.