تخيل أن تُمنح دقائق معدودة لتجمع ذكرياتك بصمت في حقيبة، ثم تُغادرُ وطنك إلى غير رجعة.

تُصبح فجأةً من صاحب أرضٍ إلى عابر سبيل، من ابن وطنٍ إلى رقمٍ في سجلات اللجوء، تحمل جراحك على ظهرك، وتسيرُ في دروب المنفى التي لا تنتهي.

هذا ليس مشهداً من رواية خيالية، بل واقعٌ مريرٌ يتكرر في تاريخ البشرية، حيث تتحول الأوطان إلى ساحات صراع، ويصبح الإنسان رقماً في معادلات السياسة الباردة.


واليوم، يعود شبح التهجير القسري ليطلّ برأسه على فلسطين، حيث يُطرح اقتراح بتهجير مليوني فلسطيني من غزة وكأنهم بضائعٌ تُنقل من ميناء إلى آخر، لا بشر لهم ذاكرة وهوية وأحلام.

هذا الاقتراح ليس مجرد فكرة سياسية على الطاولة، بل تعني اقتلاع شعب بأكمله من أرضه، وحرمانه من ذاكرته، ومحاولة دفن هويته الحقيقية تحت ركام القرارات الظالمة.

هذه النظرة القاصرة، التي تعتقد أن تلبية الاحتياجات المادية وحدها كفيلة بإسكات الأرواح الحرة، لا تدرك جوهر الإنسانية ولا تفهم ما يجعل الإنسان يقاتل حتى الرمق الأخير دفاعًا عن وطنه. فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، بل بحريته، بكرامته، بارتباطه بأرضه، بانتمائه الذي لا يُشترى ولا يُباع.

اللاجئ الذي تراه ليس مجرد جسدٍ يبحث عن مأوى؛ بل روح مشدودة إلى جذورها، تتوق إلى مراتع الطفولة وذكرياتٍ تمتد في أعماقها كأغصان الزيتون الضاربة في الأرض.

هذا اللاجئ عين تطيل التحديق نحو الأفق، تبحث عن ملامح قريته التي هُدمت، وزقاق حارته الذي محاه الاحتلال، ومدرسته التي كانت تضج بأصوات الأصدقاء قبل أن تتحول إلى أنقاض.

وهذا يقودنا إلى الحقيقة العميقة التي مفادها أن الحياة ليست مجرد قدرة على التنفس، بل هي أن تشعر أنك تنتمي، أنك موجود، أنك لست مجرد عابر في دروب مجهولة، بل صاحب حق لن يسقط بالتقادم.

من يظن أن بإمكانه تهجير شعب بأكمله وإطعامه بفتات المساعدات ليُسكت صوته، لا يفهم معنى المقاومة ولا يعلم أن الأوطان لا تُشترى ولا تُستبدل. هناك أشياء لا تُعوّض، وهناك حقوق لا تُمحى، مهما حاول الطغاة إعادة رسم الخرائط بمداد الظلم.