«إذا كانت واشنطن تريد إدارة الأزمات وفق مصالحها، فإن بكين تذكرها بأن هناك توازنا جديدا يتشكل، وأن القضية الفلسطينية ستبقى في قلب المعادلة، رغم كل محاولات التهميش».

في السياسة كما في الحياة، هناك أولويات تُرسم على الورق، وأخرى تُفرض على الأرض. وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، رجل يدرك كيف تتشابك المصالح وتتقاطع الأزمات، لكنه أيضا لا يغفل عن التناقضات التي تصنعها القوى الكبرى حين توجّه الأضواء نحو أزمة وتغض الطرف عن أخرى. في خطابه الأخير، لم يتوانَ عن توجيه رسالة واضحة: لا يجوز أن تهمش مأساة غزة بينما تستنزف أوكرانيا اهتمام العالم.

كلمات وانغ يي ليست مجرد جملة عابرة في بيان دبلوماسي، بل هي تأكيد على موقف الصين المتزن من القضايا الدولية. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، وجدنا الإعلام الغربي في سباق محموم لتغطية الأحداث، بينما تُرك الفلسطينيون وحدهم يواجهون القصف، والجوع، والحصار، دون أن تتحرك نفس المنظمات التي صرخت لأجل حقوق الإنسان في أوروبا.


لطالما كانت الصين داعمة للقضية الفلسطينية، لكنها لا تتبع سياسة الضجيج الإعلامي ولا الشعارات الجوفاء. تتحدث بلغة المصالح المتوازنة، وتسعى لدور دولي أكثر فاعلية، يعكس تحولات المشهد العالمي بعيدًا عن الأحادية الغربية. وهنا يكمن الفرق الجوهري: واشنطن تتعامل مع القضايا وفق أجندة سياسية محددة، بينما بكين ترى ضرورة العدالة في التعامل مع الأزمات، بغض النظر عن هوية الضحية أو الجاني.

ما قاله وانغ يي ليس مجرد رأي سياسي، بل صفعة لحالة الانتقائية التي تعاني منها واشنطن. فالعالم لم يعد يحتمل ازدواجية المعايير، حيث تُسكب الدموع على ضحايا الحرب في أوكرانيا، بينما يبرر القتل في غزة باسم الدفاع عن النفس. الصوت القادم من بكين، الذي يذكّر واشنطن بأن الإنسانية لا تُجزأ، وأن صمتها عن مأساة غزة ليس إلا سقوطًا أخلاقيًا لا يمكن تبريره.

الصين تدرك أن النظام العالمي في مرحلة مخاض، وأن العالم يتجه إلى تعددية قطبية تفرض معادلات جديدة. وانغ يي لا يتحدث فقط عن غزة، بل عن الشرق الأوسط كله، حيث تسعى بكين لترسيخ نفوذها كشريك سياسي واقتصادي، وليس مجرد مراقب بعيد. وبقدر ما تحمل تصريحاته بعدًا إنسانيًا، فإنها أيضًا تعكس رؤية إستراتيجية: إذا كانت واشنطن تريد إدارة الأزمات وفق مصالحها، فإن بكين تذكرها بأن هناك توازنًا جديدًا يتشكل، وأن القضية الفلسطينية ستبقى في قلب المعادلة، رغم كل محاولات التهميش.