لم يكن الشعر العربي غير الغناء والإنشاد والتسلية للشعراء والناس والتعبير عما يدور في خواطرهم وأحلامهم وإيقاع حياتهم، ومطابقاً لما في نفوس السامعين الذين بدورهم يتفاعلون مع القصائد ويرددونها في مجالسهم، حتى ثبت في أذهانهم: «إذا الشعر لم يطربك عند سماعه فليس حري أن يقال له شعر» ولا يمكن استسغاء شكل آخر مختلف عنه.

من هنا ليس من السهل على شكل شعري لا يمثل الغناء ولا الإنشاد كقصيدة النثر فرض وجودها على مسامع الناس وذائقتهم الغنائية الراسخة، والقبول بها كشكل جديد من أشكال الإبداع في الأدب العربي الحديث وفنونه المختلفة.

لم ترتبط قصيدة النثر- على الأقل في بداية تكوينها الأولي- مباشرة بوعي الجماهير الاجتماعي والسياسي وحتى الثقافي، ولم تعبر عن احتياجاتهم وأحلامهم وطموحاتهم، بل احتياج وأحلام وطموح كاتبها الذي يَعتبر أن هذا الشكل الشعري يخصُّه وحده ومن معه من الشعراء وما عدا ذلك لا يهم، ما حدا بأحد أهم الشعراء المجددين في القصيدة العربية محمود درويش إلى القول: «خطورة قصيدة النثر في ميليشياتها»، مما سبب صعوبة أخرى لقصيدة النثر في الحضور وتوطين وجودها على المنابر كشكل شعري يَنضمُّ إلى الشكلين السابقين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة.


لقد تَعمّد بعض شعرائها الأولين الغموض في كتابة القصيدة والاعتداد بتعتيم المعنى على اعتبار «لماذا لا تفهم ما يقال؟!» معتبرين الغموض أحد الألغاز أو الأحاجي التي يمكن أن تجود القصيدة وترفع من مقامها ولا تنصاع بسهولة لمتلقيها، حتى وصل حداً صار فيه النص مغلقاً على كل القراء من دون استثناء بمن فيهم نقاد الأدب، وأشكل أيضاً على منظمي المهرجانات الثقافية وأوقعهم في حيرة عند دعوة شعراء قصيدة النثر للمشاركة ومواجهة الجمهور.

قد يتوه شاعر قصيدة النثر بين شعراء العمودي والتفعيلي إن لم يضع بينهم على المنابر، ولا يجد التفاعل المطلوب الذي يرفع من همّة الشاعر ويمنحه فسحة البوح والإلقاء، كونها غير غنائية ولا طربية ولا تتكئ غالباً على البلاغة أو الخطابة و«صوتها خفيض وخالية من الجدل البطولي والملحمي الذي يمدها بشحنات منبرية» على الرغم من كل المحاولات التي يستحث فيها الشعراء مواهبهم بُغية توصيلها إلى مسامع الجماهير.

لقد كان الشاعر السلفي يستخدم وسيلة لضبط إيقاع القصيدة أثناء الإلقاء، ويمسك بالعصي أو الأقواس ويلوح بها أثناء إنشاده للشعر لتكون «أداة عون ايقاعية»؛ فكيف سيفعل شاعر قصيدة النثر واقفاً على المنابر حتى يضبط إيقاع قصيدته أثناء الإلقاء ومسرحة القصيدة؟! هل سيستخدم العصا والقوس مثلاً، أم تراه يستنجد بالسبحة أو القلم كي يضبط إيقاع قصيدته ويعبر عن معانيها ويقنع الجمهور بما يقول؟!

ليس كل شاعر بالضرورة يمتلكه مَلَكة إلقاء القصائد؛ فالتاريخ يخبرنا عن أحمد شوقي مثلاً، الذي ينتمي إلى المدرسة الشعرية السلفية، أنه كان ضعيفاً في الإلقاء؛ فيضطر إلى أن يعطي قصائده لشخص يمتلك هذه المَلكة ليلقي عنه الشعر حتى يتفاعل معها الجمهور وتؤثر فيهم، وهذا الضعف أيضاً موجود عند بعض شعراء قصيدة النثر.

لقد حاولت بعض البرامج الثقافية التلفزيونية اليوم تقديم قصيدة النثر على الشاشات ومناخ المسابقات الشعرية وجبر خواطر شعرائها وتقديم مكافأة مالية مجزية لهم، مثلما يحدث في «مسابقة المعلقة» التي أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة السعودية وتعرض على شاشة «الثقافية السعودية» في شهري يناير وفبراير، وضم هذا الشكل الشعري إلى الشكليين السابقين له القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، واستقدام أحد نقادها إلى جانب ناقدي قصيدة التفعيلة والعمودي؛ ليدلي برأيه في القصائد المشاركة ويشد من عزم الشعراء ليكون حضورها مشرفاً على الشاشة ومعرفاً الناس بقصيدة النثر وشعرائها الجدد.

الأكيد أن قصيدة النثر اليوم أصبحت قريبة من الناس وتتماس مع أحاسيسهم وعواطفهم، بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في التجديد والتحديث من خلال أصوات شعرائها الجدد، واستخدام اللغة البيضاء و«المزج بين لغة الحياة اليومية ولغة الشعر وإيجاد صلة راسخة بينهما والالتفات إلى أفكار الشارع عوضاً عن أفكار النخب»، مما يرجح ظهورها بشكل أكثر فعالية وتفاعلاً من صفحات الأوراق ودواوين الشعر، مسموعة على المنابر والمسارح، ومعبرة عن إيقاع الحياة وفضائها الجديد، واستسغاء الجمهور لحضورها وتعاطيهم المستمر لها.