لن أتحدث عن يوم التأسيس من زاوية (التأريخ/بهمزة على الألف) كسردية منتقاة تأخذ هذه وتترك تلك، ولا من زاوية (التأريخ) كأحداث تحصل خبط عشواء يدونها المؤرخون يوماً بيوم كأخبار جريدة صباحية، ولن أتحدث عن (التاريخ بلا همزة) كما يراه كارليل ممثلاً في (الأبطال وعبادة البطولة)، ليصبح الفرد هو صانع التاريخ المطلق (السوبرمان)، ولا كما يراه جورجي بليخانوف في (دور الفرد في التاريخ)، حيث يصبح الفرد مجرد أداة لعوامل اجتماعية واقتصادية أكبر، بل سأكون وسطاً في ذلك، محاولاً مقاربة المسألة وفق نظرية هيجل في التاريخ ـ كما أفهمها ـ والتي ترتكز على ركنين (العقل والحرية)، والحرية في أعلى تجلياتها لا تكون في نظر هيجل دون وجود (الدولة)، فالدولة أعلى تجليات الحرية، فالإنسان العاقل لا يكون حراً بلا دولة، فبدون الدولة يكون أقرب للوحشية والبربرية؛ لأنه بلا قوانين، وبدونها يعيش الإنسان وفق ضرورات الغريزة في البقاء كسائر الثدييات مهما حاول التماسك بالأعراف والتقاليد التي تقيم له أود حاجته كفرد في قبيلة، دون أن ترفع له عمود حضارته كمواطن في دولة، وعندما ندرك ذلك نرتبط بمشهد الدولة السعودية الأولى عام 1727م متسائلين عن موقع (العقل) المرتبط بالحرية وفق نظرية هيجل، وهنا يظهر دور الإمام محمد بن سعود كتجلٍ لإرادة العقل المطلق في التاريخ، وكتجسيد حي لفاعليتين لا تنفكان عن بعضهما: الفاعلية الأولى خاصة بالفرد (ذاتية)، وتتمثل في إرادة البطولة في الإمام محمد بن سعود وفي عقبه من بعده لثلاثة قرون متتالية، وإرادة البطولة ثمنها غالٍ ومكلف جداً، (لولا المشقة لساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال)، وقد دفعت هذه السلالة العريقة أكلاف البطولة (سجناً ومنفىً ودماً) مرِّات ومرَّات قرناً إثر قرن، كتعبير عن الفاعلية الثانية الخاصة بالظرف التاريخي خلال ثلاثة قرون، تتكرر فيها استجابة المكونات الداخلية لهذه البطولة بالقبول والولاء والطاعة، ولهذا من حق المنصفين أن يروا في الملك عبدالعزيز وذريته وصولاً إلى ذرى أرومتهم الخالصة النبيلة في 1727م أكثر مما قاله هيجل في وصف نابليون عندما رآه: (إنه التاريخ يركب حصاناً).
قد يستغرب البعض هذا الربط بين الحرية والعقل وفق الشرط الهيجلي وبين الإمام محمد بن سعود، والسبب يعود إلى مفهوم الحرية القلق عند هؤلاء البعض، بينما التزامنا بالشرط الهيجلي يفسر لماذا كان حرص الإمام محمد بن سعود على إقامة الدين ونبذ البدع مكوناً مهما في (حركة التاريخ)؟ لأن فيها تحقيقاً للحرية بالمعنى الديني في (لا إله معبود بحق إلا الله)، وهذا الشرط في الحرية هو ما كانت تتعطش له جزيرة العرب أمام الخرافات التي يغذيها العثمانيون أكثر وأكثر، ليأتي الإمام محمد بن سعود فيمنح أبناء جزيرة العرب ما تحتاجه قلوبهم من (تحرر روحي/عقائدي)، ينعكس على واقعهم التاريخي طلباً للحرية ورفعاً للضيم بالمعنى الهيجلي، فإن تفاخرت العراق والشام بعروبتها التي استحلبتها من مدارس استعمارية لترجمات غربية عن القومية، فإن لنا الفخر بأننا قوميون عروبيون على السليقة منذ أسلافنا على هذه الأرض، فكانت جيلاً إثر جيل حتى تجلت المملكة العربية السعودية حامية شوكتنا ومعنى وجودنا السياسي، بكل ما في العروبة من سليقة وصفاء وما في الدين من فطرة ونقاء، دون حاجة إلى أيديولوجيا قومية عفلقية أو ناصرية، أو دينية إخوانية (قطبية أو سرورية)، بل سعودية شعارها سيفان ونخلة عربية كريمة، رايتها سيف تحت رمز حريتها في (نفي العبودية لغير الله) مع خلفية خضراء كإشارة للرخاء والنماء بإذن ربها، ويبقى لنا الفخر بالعاصمة (الرياض) كقلب جزيرة العرب، ومنها كانت العروبة بالفطرة والسليقة لا بالأيديولوجيا، وعلى أرضنا الحرمين، مكي يستقبله مليار ونصف مسلم، ومدني نجاور فيه نبي هذه الأمة وآله الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام، فهل عرفنا الفرق بين فخرنا العربي والديني وتفاخر غيرنا، وشتان ما بين الفخر بيوم التأسيس قبل ثلاثة قرون والتفاخر بيوم الجلاء قبل أمس.