امتاز الموقف السعودي من قضية فلسطين بالوضوح والثبات منذ بروز هذه القضية، حيث رفضت المملكة كل محاولات الابتزاز والمساومة على الحق العربي الأصيل، وظل ذلك الموقف المبدئي عنوانا سعوديا خالصا. فالمملكة منذ توحيدها على يد الملك المؤسس المغفور له - بإذن الله - عبدالعزيز آل سعود، وضعت قضية فلسطين في مقدمة أولوياتها، وتولت تنسيق المواقف الإسلامية والعربية الداعمة لها، ولا يزال هذا الموقف ثابتا باعتبار فلسطين القضية المحورية لكل المسلمين والعرب. كما تقدمت السعودية بمبادرة السلام العربية التي مثَّلت نقلة نوعية وفرصة مواتية لوضع حلول ناجعة لهذه المشكلة المستعصية، لكن التعنت الإسرائيلي حال دون استكمالها.

لذلك فقد ظلت المواقف السعودية ملهمة لبقية الدول العربية والإسلامية التي سارت في طريق دعم الحق الفلسطيني، كما وظّفت المملكة ثقلها السياسي الكبير ومكانتها الفريدة على الصعيد الدولي لحشد الدعم للقضية وتنسيق المواقف في مؤسسات صنع القرار العالمي، وهو ما أفشل العديد من المخطّطات التي حاولت ممارسة الابتزاز السياسي على بعض الدول ومساومتها بالترغيب مرة وبالترهيب مرات أخرى.

ويبدو أن تلك المواقف الصلبة هي التي دفعت الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى الخروج عن كل الأعراف الدبلوماسية والتخلي عن أبسط مبادئ الدبلوماسية وإظهار وجهه القبيح وهو يتطاول على المملكة ويدعو لتهجير الفلسطينيين، ليثير موجة عاتية من السخرية التي عصفت به وجعلته في موقف لا يحسد عليه، بعد أن افتعل تلك الأزمة لصرف النظر عن الجرائم المتتالية التي يرتكبها جنوده بحق الفلسطينيين في غزة وما يتعرضون له من تطهير عرقي.


ونظرة فاحصة لتاريخ نتنياهو المأزوم، الذي تلاحقه فضائح الفساد المالي في بلاده ويواجه بسببها احتمال الزج به في السجون، توضح أن الإرهاب يجري في دمائه، حيث لم يتورع طيلة تاريخه الأسود عن ارتكاب أفظع الجرائم بحق المدنيين الأبرياء، فقتل الأطفال والنساء والشيوخ، ودمّر المساجد والمدارس ودور العبادة، وتلطّخت يداه بالدماء لأنه في الأصل إرهابي ورث الإرهاب أبا عن جد، فوالده كاتب صهيوني متطرف وجده حاخام عرف بالإرهاب والإجرام، لذلك لم يكن غريبا أن تسري في عروقه جينات التطرف والعنف.

وطوال وجوده على كرسي رئاسة الوزراء لم يبذل نتنياهو أي جهود لإيجاد حلول سلمية للأزمة، بل تفنّن في إفشال كل المبادرات التي تقدّمت بها الدول العربية والإسلامية وفي مقدمتها مبادرة السلام العربية، وذلك لعمى بصيرته التي لا ترى الحل إلا في إراقة المزيد من الدماء والقتل والتفجير.

ولأن الرجل الذي يلازمه الفشل وتحيط به الإخفاقات من كل جانب لا يجيد قراءة التاريخ ولا يتقن استيعاب المواقف فهو لم يفهم أن موقف المملكة من هذه القضية ثابت وراسخ، وأنه لا يمكن تحقيق سلام عادل وشامل أو إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية مُستقلة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس، وهو ما أكدته المملكة مرارا وتكرارا.

هذا الموقف الواضح أعلنه مؤسس هذه الدولة الملك عبدالعزيز، ويتمسك به قائدها وملكها الحازم سلمان بن عبدالعزيز، وأكد عليه ولي عهدها المجدد الأمير محمد بن سلمان. فهل يستطيع نتنياهو أن يمتلك ولو جزءا بسيطا من القدرة على الفهم لاستيعابه؟

فالعالم كله يدرك أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الأصيل في أرضه، وليسوا دخلاء عليها أو مهاجرين إليها يمكن طردهم متى شاءت دولة الاحتلال وداعموها، وسيبقى حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته راسخًا، ولن يستطيع أحد سلبه مهما طال الزمن، ما دامت في عروق العرب والمسلمين عروق تنبض.

هذا الحق تثبته قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وهي أكثر من أن تحصى، وكلها ترفض الاستيطان وتطالب بوقف مصادرة الأراضي العربية، ومنها القرارات (608) و(476) و(452) و(242) و(2334) و(338) و(497) و(1515) و(1701)، فهل يعي ذلك من أضل الله بصيرته وأعمى بصره؟

ولكن يبدو أن العقلية المتطرفة المحتلة - كما جاء في بيان وزارة الخارجية - لا تستوعب ما تعنيه الأرض الفلسطينية لشعب فلسطين الشقيق وارتباطه الوجداني والتاريخي والقانوني بها، ولا تنظر إلى أنه شعب يستحق الحياة أساسًا؛ فقد دمرت قطاع غزة بالكامل، وقتلت وأصابت ما يزيد على (160) ألفًا أكثرهم من الأطفال والنساء.

أما المملكة العربية السعودية التي حاول ذلك الموتور أن يتطاول عليها فهي أكبر من أن تلقي بالا لأمثاله من الإرهابيين، وأعلى شأنا من الانشغال بما يقولونه من تفاهات وترهات، ويكفي لتأكيد مكانتها وعظم شأنها ردود الأفعال التي تواترت ردا على تصريحات نتنياهو، حيث أعربت كثير من دول العالم ومنظماته ومؤسساته الدولية عن رفضها واستهجانها.

حتى داخل إسرائيل نفسها فقد شنّت وسائل الإعلام العبرية، خلال اليومين الماضيين، حملة عاصفة على نتنياهو واتهمته بالتسبب في أزمة دبلوماسية غير ذات معنى لبلاده باستعدائه لأكبر دولة عربية وإسلامية دون مبرر، ووصفت تصريحاته بـ«البلادة والغباء» وهو أقل ما يستحقه من وصف.

والسعودية التي تزداد قوة بمواقفها، ويحظى قادتها بالتقدير والاحترام في جميع أنحاء العالم - وهو ما يفتقده نتنياهو - ليست في حاجة إلى الرد على أمثال هؤلاء، ولا تملك قيادتها الرشيدة من الوقت ما تضيعه في مماحكة ومهاترة سالبة، فقد كرسوا وقتهم لخدمة شعبهم وترقية واقعه وضمان مستقبل أفضل لأجياله المقبلة.

وهي فوق هذا وذاك قبلة المسلمين التي تهفو لزيارتها أفئدة مليار ونصف المليار مسلم، يتوزعون على قارات العالم كافة، وهم على استعداد للذود عنها وتقديم أنفسهم وأرواحهم فداء لها ولأرضها الطاهرة.