شهر رجب الذي استقبلناه يوم استقبالنا العام الميلادي الجديد، حسب إعلان دائرة الأهلة بالمحكمة العليا، أحد الأشهر الحرم المخصوصة بالتعظيم، حيث قال سبحانه: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾؛ وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وبيّن صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن لها مكانة خاصة، إذ هي فرصة للتقرب إلى الله والاستزادة من العمل الصالح.

رجب اشتهر بين عموم المسلمين بفضائله، يقول الإمام ابن حجر، في كتاب (تبيين العجب بما ورد في فضل شهر رجب): «أما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة، فهي على قسمين: ضعيفة، وموضوعة.. فمن الضعيفة: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهْرًا يُقَالُ لَهُ: رَجَبٌ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْلَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ يَوْمًا سَقَاهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ»، وحديث: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ»؛ ومن الموضوع حديث «من صلى ليلة النصف من رجب أربع عشرة ركعة... بعث الله إليه ألف ملك يكتبون له الحسنات..»؛ ومعلوم أن العلماء أقروا جواز العمل بالأحاديث الضعيفة، لا الموضوعة، في الفضائل، بشرط ألا يكون ضعف الحديث شديدًا، وألا يُعتقد ثبوته إلا بناءً على أسانيد صحيحة.

صيام رجب، تكلم عنه المتخصصون، فقال بعضهم لم يرد حديث صحيح يخص صيامه أو تخصيص أيام معينة منه بالصيام، وهو قول مقبول، إلا أن هذا لا يمنع من صيام النوافل المعتادة، كالأيام البيض والاثنين والخميس؛ إذ المقرر شرعًا أن أي وقت غير محرم يعتبر مناسبًا لعبادة التطوع، ومن هنا لا مانع من صيام أي يوم من رجب للتقرب إلى الله. وفي هذا السياق، يذكر البيهقي في كتاب «شعب الإيمان» حديثًا عن أبي قلابة: «فِي الْجَنَّةِ قَصْرٌ لِصُوَّامِ رَجَبٍ»، وذكر تعليق أحمد بن حنبل عليه وقوله: «وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي قِلَابَةَ وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، فَمِثْلُهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ بَلَاغٍ عَمَّنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ يَأْتِيهِ الْوَحْي»، ما يبين أن الحديث لا يتوقف على صحة المتن فقط، بل على بلاغه كذلك.


رغم الجدل المعتاد حول الأحاديث المتعلقة برجب، يظل هذا الشهر محلًا للتبجيل والطاعة؛ نقل ابن كثير في (تفسيره)، عن قتادة قوله: «إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، وقال إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، ومن الكلام ذكره، ومن الأرض المساجد، ومن الشهور رمضان والأشهر الحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر؛ فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به، عند أهل الفهم وأهل العقل»، وهذا يؤكد أنه ليس من الحكمة إساءة التعامل مع رجب، بل يجب أن يُستغل لتعظيم الطاعات، والابتعاد عن عكسها، مؤكدا أن تخصيصه بعبادات خاصة ليس له دليل قطعي، إلا أن التقرب بالأعمال الصالحة مطلوب؛ وختامًا، رجب فرصة لتجديد العهد مع الله بالعبادات، وليس هناك ما يمنع من استغلاله في الطاعات العامة، وفي الاستفادة من فرصه الروحانية.