ولكن اليوم، ظهر مستثمر سياسي آخر للدين اجتاح أجزاء كثيرة من بلاد العالم العربي. واستثماره «كارت الدين» لغاياته السياسية أكثر فجاجة وتدليسًا من غيره، ولديه خبرة طويلة في هذا المجال.
وعليه، يجب على الشباب العربي، وخصوصًا في البلدان التي ترزح تحت وطأة هؤلاء المستثمرين للدين في السياسة، أن يعيدوا النظر مرتين في تاريخ وواقع الأمة مع هذه الآفة. والسؤال الأكثر أهمية الذي يجب طرحه هو: ماذا صنعت السياسة للدين منذ فجر الإسلام؟
ستجد أن السياسة ومستثمري الدين فيها لم يفيدوا الدين بشيء، وهو في الأصل كامل لا يحتاجهم، والواقع أنهم هم أكثر من أضر بالدين. حتى المذاهب المتحاربة في العالم الإسلامي في حقيقتها هي مذاهب صنعتها السياسة. ولم يكن هناك صدام قديم بين المذاهب التي يقتصر خلافها على مسائل فقهية، بينما كل الخلافات الكبرى التي أضرت بالأمة جاءت بسبب مستثمري الدين لغايات السلطة. ومنذ ذلك الحين، والدين يتلقى طعنات متتالية من هؤلاء السياسيين الذين يتخذون الدين وسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية.
وبالمناسبة، هناك نقطة مهمة يتم التدليس فيها كثيرًا، وهي الخلط بين مفهوم الدولة والسياسة. فعلى سبيل المثال، لدينا في اليمن في الدستور، تقول المادة الثالثة منه إن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات. ولدينا قانون، وقانون أحوال مدنية، صاغه العلماء والفقهاء والمحامون، ورفعت الأقلام وجفت الصحف. هنا، تكتمل علاقة الدولة بالدين كعلاقة قوية جدًا. الدولة كما هو معلوم قائمة على الدستور، والدستور قائم على الشريعة الإسلامية، ولا يوجد اتصال أقوى من هذا بين الدين والدولة.
أما السياسة، فتبدأ عندما تتنافس الأحزاب، كل حزب أو جماعة أو حتى شخصية، على السلطة بناء على برنامجها الانتخابي الذي يُفترض أن يركز على تحسين أحوال المواطن في الدنيا. أما الآخرة، فلن يحتاجهم أحد، إذ «كل شاة معلقة بعَرقوبها»، والفائز في الانتخابات لن يحكم إلا بما هو مكتوب في الدستور والقانون.
وفي هذا المضمار، مضمار التنافس في الانتخابات، لا يجوز ارتداء أقنعة الدين أو التدليس باسمه. المطلوب هو التنافس على تحسين الاقتصاد وتحسين أحوال المواطن في الدنيا. لذلك، تنزيه الدين عن الصراعات السياسية والتنافسات الانتخابية ضروري ومهم.
اليوم، هناك ملايين العرب يعيشون في دول علمانية كلاجئين (وحتى إن السبب الرئيس الذي دفعهم إلى ترك بلدانهم هو مستثمرو الدين). هؤلاء اللاجئون يعرفون أن الواحد منهم في هذه الدول يعبد الله بكل حرية، والدولة تحميه من أن يتدخل أحد في معتقده، كما تحمي الآخرين من أن يتدخل هو في معتقداتهم.
في هذه الدول العلمانية، يجد هؤلاء راحة وطمأنينة في العبادة، أفضل مما يجدونه في كثير من البلدان الإسلامية. وعليه، أصبح من أولويات الخلاص من هذا المأزق هو رفع وعي الناس حتى يصبح من الصعب التدليس عليهم من هؤلاء المستثمرين للدين. وكما قال الراحل علي الوردي، «الدين في خطر جملة يرددها رجال الدين عندما تكون مصالحهم في خطر».