رغم كل هذه التكريمات والجوائز فقد امتلأت مذكراته بالتشكي والتبكي الضَّنك من الجميع (تقريبًا) حيث انتهيت من قراءة مذكراته وأنا أردد (إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه) ولعل من ذاق (لقمة العيش المُرَّة) في المخيمات، فلن يلومه، وسيلمس ظلال المخيمات تنوء بكلكلها على مذكرات فهمي جدعان، حتى ولو حكى فيها عن امتلاكه سيارة BMW، وما اقتناه من ماركات اللباس والإكسسوارات والعطور بشكل استعراضي غير مبرر في ثنايا الصفحات يشي بعقدة عوز أبدية، إضافة إلى ما أكسبته الظروف من (ضعف الشجاعة الفكرية) ليصبح أقرب إلى (براغماتية متدينة)، تجعلك تلاحظ في مذكراته (طائر التم) البطء الشديد والحذر في تحولاته الفكرية من (مسلم محافظ لا يستسلم لشهواته /ص217، ص238) ويترافع (عن الدين بشكل تقليدي جدًا كما يقول/ ص227) عن حياته في فرنسا أوائل الستينيات الميلادية من القرن الماضي إلى شاب (مسلم أكثر ليبرالية يشارك أنخاب الصداقة ص 239) عبر نصف قرن، ربما الذي أخر هذه التحولات هو تقاطعه النفسي مع بعض الشخصيات التي زاملها وعرفها إبان شبابه (صداقته لعبداللطيف الشيرازي الصباغ ص194، وإعجابه بحسن الترابي الملتحق آنذاك ببرنامج الدكتوراه في القانون في جامعة باريس، حيث يقول: (كان هشام أشدنا إعجابًا بالترابي/ ص202) ثم مجاورة فهمي جدعان للترابي: (كان الترابي آنذاك يقيم في الضاحية نفسها التي انتقلت أنا إليها... وقد دعانا جميعًا، أنا وهشام وكابيتانوفيتش، أكثر من مرة، لتناول الغداء أو العشاء في منزله، حيث كانت تستقبلنا زوجته السيدة إخلاص بأريحية وكرم بالغين /ص203).
أخيرًا: أعود للجولاني حيث (عاد معتذرًا) باسمه الحقيقي: أحمد الشرع، لأستعيد الكتاب الثاني الذي بدأت به الحلقة الأولى بعنوان: (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل/نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي) لنكتشف الأصالة الفكرية التي يتمتع بها كتاب محمد أركون (حتى الآن)، مما يجعل كتب (فهمي جدعان) كتب مرحلة تبحث عن جائزة لم تستدرجني لقراءتها وأنا طالب كلية الشريعة ولم تستطع الإجابة على تساؤلاتي لما فيها من (تملق) فكري للحركات الإسلامية لا يتناسب وطبيعتي، فربما غيري يراها (توفيقات مثرية وموفقة لصالح الحركات الإسلامية)، بينما كتب (محمد أركون ترجمة هاشم صالح) فتحت لي نافذة وبابا في (جدار الأصولية وزنزانتها) التي كنت أعالجها بداخلي بالانفتاح (الطفولي) على كتب علي الطنطاوي بما فيها كتابه (فتاوى)، ومنها وصلت لكتب (يوسف القرضاوي) الفقهية والأيديولوجية، ولم يحررني من هذا سوى ما وصلني من أحد الأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن على شكل (إهداء) كتاب لمحمد أركون قال: (لم أفهم ما فيه.. يحتاج إلى قارئ يمتلك الشغف والجلد.. تستحقه)، أخذته وبالنسبة لمعارفي الفقهية (التقليدية) فقد فتح ثغرة جديدة تمكنت من خلالها الولوج من عصر القرون الوسطى في (فقه العبيد والسبايا) إلى العصر الحديث في (تجريم الإتجار بالبشر) على المستوى العقلي، أما جسدي فهو ككل الناس يعيش بالضرورة في (2024).
عرفت أركون فكان نقلة فكرية، لم أتوقف عندها بقدر ما عرفت الفرق بينه وبين حسن حنفي الذي اعتذر لهاشم صالح بأنه يكتب وسط مجتمعات قتلت فرج فودة، وحاولت اغتيال نجيب محفوظ، ونفت نصر حامد أبوزيد، بينما أركون يكتب مقيمًا في باريس، وعندي أن حسن حنفي رغم ما في كتبه من (أيديولوجيا) تجامل الإسلام السياسي، إلا أنه ــ من وجهة نظري ــ من طبقة أعلى بمراحل من فهمي جدعان الأقرب للمؤرخ.
أخيرًا: لماذا الإسلام السياسي لم يستوعب (استحالة التأصيل) حتى الآن؟ ولماذا لم يسعهم ما وسع تجربة (المسيحية السياسية)؟ التي ما زالت قائمة في أوروبا (الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا/ سبق وترأسته إنجيلا ميركل)، سيعودون بقولهم: لسنا مستلبين للغرب.... إلخ، فإن حاججتهم بالواقع طالبوك بالمثالية، وإن حاججتهم بالمثالية طالبوك بالواقع، كلعبة (ديماغوجية/دهمائية) أتقنوها في كتبهم وخطبهم ما داموا باحثين عن (كرسي السلطة) أكثر من بحثهم عن (الحق) في (العدل والمساواة والكرامة والحرية) مما عرفته الحضارة الحديثة، وما زال الإسلاميون يتدارسونها كتنويعات جديدة لفقه (الحر والعبد، المسلم والذمي) مع ما في المسلم من تنويعات عجزوا عن حلها ما بين (سني شيعي) وداخلها عناوين أكثر تعقيدًا ينقصها عود ثقاب من (كبريت التراث) لتشتعل الحرائق من جديد.
فلنقرأ حتى كتب تقع (يسار) أركون لناقدين شرسين ما دامت (جديدة على تفكيرنا)، كما عند محمد المزوغي في نقده الجذري لمحمد أركون ومترجمه هاشم صالح على حد سواء في كتابه (في نقد الاستشراق: المحور أركون/صالح) منشورات إفريقيا الشرق، وكتابه (العقل بين التاريخ والوحي: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون) منشورات الجمل، فبهذا الانفتاح الفكري بلا أي تقديس لأي (مؤلف) قديم أو حديث، نصبح أقرب للمنهج العلمي، لنفيق من مفازة فكرية قتلتها المسغبة، وسلواها سرابٌ ممتد من الجولاني يمينًا إلى فهمي جدعان يسارًا.