وجداني منذ نعومة أظفاري - بفضل الله - ثم إذاعة القرآن الكريم. كانت أصوات المقرئين، العذبة، وهي تتدفق من هذا الراديو، بمنزلة آيات سماوية تحيي، الروح وتنعش القلب. لم أكن أفهم معاني الكلمات في ذلك الوقت تمامًا، لكنني كنت أشعر بقوة تأثيرها في نفسي، وكأنها تخاطب شيئًا عميقًا في داخلي، شيء أجهل كنهه آنذاك.
أتذكر برنامج «نور على الدرب» والفتاوي المؤصلة، فكانت تدخلني في حالة من الخشوع والسكينة
لا مثيل لها، كأن أصواتهم نسيم عليل يمر على روحي، فيزيل عنها أعباء الحياة وهمومها.
كلما تذكرت أصوات الشيخ «بن باز، بن حميد، بن عثيمين، بن غديان، بن غصون» وغيرهم من العلماء الأفاضل رحمهم الله، وهم يحلقون بنا في سماءِ الأتقان والإبداع دون تكلف، وبقدرتهم الفائقة في فهم ما يحتاجه السائل، وكأنهم يرسمون بالكلمات لوحات فنية بديعة تجسد معاني الرحمة والثقة بين السائل والمسؤول.
لم تكن إذاعة القرآن الكريم مجرد وسيلة للاستماع إلى التلاوة والفتوى والدروس العلمية فحسب، بل كانت مدرسة وجامعه تربوية روحية تعلمنا منها مبادئ الدين الحنيف وقيمه السمحة.
كانت ترسخ فينا معاني الإيمان والتقوى والإحسان، تعلمنا كيف نعيش حياة كريمة مفعمة بالخير والسلام، تعلمنا كيف نحترم ونحب وطننا وولاة أمورنا من الأمراء والعلماء. تحلقنا في رمضان حول موائدنا ننتظر صوت انطلاق المدفع يعقبه آذان المغرب بصوت الشيخ عبد العزيز بن ماجد - رحمه الله - وكأنه النداء الأخير للصلاة.
لقد تركت إذاعة القرآن الكريم بصمة لا تمح في تكويني النفسي والروحي، فقد أسهمت في تشكيل شخصيتي وهويتي، وغرست في قلبي حب كتاب الله تعالى، وحب الدين وجعلتني أدرك أهمية التدبر في معانيه
والعمل بأحكامه.
كبرت وكبر معي هذا الحب، وأصبحت أدرك الآن قيمة هذا الكنز الثمين الذي ورثناه عن أجيال سابقة.