عندما مات بايرون في ميسولونغي - بلاد اليونان - وقع نبأ موته على أوروبا وقع الصاعقة. ويذكر الشاعر تنيسون أنه كان في الخامسة عشرة من عمره عندما سمع الخبر، فشعر أن أمرًا رهيبًا قد حل بالدنيا، وركض إلى الصخور الرملية وكتب عليها: «لقد مات بايرون»، أما في ميسولونغي فقد أعلن الحداد العام ثلاثة أسابيع، وأطلقت المدافع سبعًا وثلاثين مرة بعدد سني حياته، ثم استمر إطلاقها مرة كل نصف ساعة لمدة أربع وعشرين ساعة. وفي باريس لبس الشباب قطعًا من الحرير الأسود على قبعاتهم، وكتبت جين واش إلى كاو لايل تقول: «لقد قالوا إن الشمس أو القمر قد أسقط من السماء!» أوحى لي ذلك بهول ما حل في الكون من فراغ رهيب أشد من قولهم: «مات بايرون».

وجاء موت بايرون بعد موت صديقه الشاعر شلي، بسنتين، وبعد موت كيتس، بثلاث سنوات. ولكن لم يكد أحد يشعر بموت كيتس وشلي، بينما اهتز العالم لوفاة هذا الشاب الذي كانت أوروبا بأسرها تتابع أخبار تنقلاته وغرامياته، وتلتهم قصائده غثها وسمينها. حتى أعداؤه الكثيرون في إنجلترا اضطروا إلى التخفيف من غلوائهم في مهاجمته.

لقد مات بايرون وهو في كفاح في سبيل الحرية. فقد جاء إلى بلاد اليونان ليساعد في إنقاذها من العثمانيين، ولكنه راح ضحية حمى أصابته هناك. وقبل ذلك كان يقيم في أماكن مختلفة من إيطاليا يستحث أهلها على القيام في وجه الطغاة النمساويين الذين كانوا يسيطرون على أكثر أجزائها، فراحت السلطات تطارده من مدينة إلى أخرى، إلى أن استقر به المقام في ميسولونغي.


وقبل أن يصاب بالحمى بأشهر قليلة، كتب قصيدة في يوم ميلاده السادس والثلاثين يقول في مطلعها:

قد حان لهذا القلب ألا يخفق حبًا لأنه ما عاد يبعث القلوب على الخفقان

ثم يستمر فيقول:

«أيامي اصفرت أوراقها

سقطت عني أزهار الهوى وثماره

ولم يبق لي إلا الدود والسوس والأحزان»

بعد هذا القنوط من الحب والشباب يعنف نفسه فيقول:

«ولكن أيليق بي أن تمضيني

أفكار كهذه الآن

حيث المجد يزين نعش البطل

أو يكلل بالغار جبينه ؟»

ويذكر نفسه أنه في بلاد الإغريق، وهي تريد الخلاص من قيود العبودية، فعليه ألا يأبه لبسمات الجميلات أو عبوسهن، بل يسعى إلى الحرب، وينتقي كالجندي أرضًا يستريح فيها الراحة الأخيرة.

الحب، اليأس، المجد، الجميلات - تكاد تكون هذه خلاصة حياة بايرون. هذا هو يائس من الحب، والنساء ما زلن يلاحقنه هذا هو يائس من الشباب، وهو ما زال في السادسة والثلاثين من عمره، فيعلل نفسه بالحرب والمجد. وهذه جميعًا خصال امتاز بها بايرون حتى سميت باسمه: البايرونية Byronism - يأس الشباب وأحزانه، واليأس من النساء وهو يتقبل عشقهن، والتمرد في وجه الطغاة وأن يكون في ذلك التمرد حتف محتوم.

إن شخصية بايرون من أعقد الشخصيات وأشدها سحرًا، وهنا المفتاح لفهمها. فقد كان بايرون في حياته أسطورة سحرت أوروبا بأجمعها. ولكن المجتمع الإنجليزي لفظه لما في أسطورته من أمور لا يرتاح لها مجتمع مستقر.

لا بد له من الرياء لاستقراره، ويعلن بايرون ألمه لهذا الوضع في بلاده، ولكنه يغادرها قبل موته بثماني سنين، ويقول: «لقد نفضت غبار إنجلترا عن حذائي» وهو إذ يتنقل من بلد إلى آخر، يشهرها حربًا شعواء على مجتمع منافق مخاتل، في شعر دافق وسخرية هجاءة. ويحقق لنفسه في أثناء ذلك الشخصية التي كان يعتقد أنها فرضت عليه ولا مفر له منها: شخصية الشيطان.

ولكنه شيطان غير الذي يرمز به الناس إلى الشر فقط. إنه الشيطان الذي أوجده الشاعر ملتون في «الفردوس المفقود»، والذي تطور فيما بعد على أيدي الكتاب إلى شخصية الجبار الجميل الذي ناصبته الآلهة العداء، ولكنه يتمرد عليها ويفخر بتمرده وثورته، ولا يطيب له العيش إلا بهما.

ولكي نفصل هذه الناحية من النواحي الكثيرة المعقدة التي اتصف بها هذا الشاعر العجيب، لا بد لنا أن نعود إلى ما قبل بايرون بحوالي مئة وخمسين سنة، إلى ملحمة ملتون (الفردوس المفقود)، حيث نرى أن إبليس كان في بادئ الأمر رئيسا للملائكة في السماء، سولت له نفسه أن يثور على اللّٰه تعالى، فسقط إلى أعماق الجحيم.

ولد جورج غوردن اللورد بايرون عام 1788 من أب كان يدعى (بايرون الهائج). ودرس في مدرسة هارو وأحب وهو في الخامسة عشرة من عمره (ماري آن تشاورث) وكتب إليها أولى قصائده الغزلية. ثم ذهب للدراسة في كمبردج، حيث اشتهر في السباحة في نهر الكام، وهناك نشر ديوانه الأول بعنوان «ساعات الفراغ». ولكن مجلة (ادتبره ريفيو) الأسكتلندية هاجمته بنقد مستخف، فأجاب عليها بقصيدة هجائية عنوانها «الشعراء الإنجليز والنقاد الأسكتلنديون» أبدى فيها أولى علامات براعته في الهجاء الذي برز فيه فيما بعد، وأحس العالم الأدبي باسمه لأول مرة.

1952*

* أديب وأكاديمي فلسطيني / عراقي «1920 - 1994»