ودفعها إلى المطبعة، باغت ايلون ماسك العالم وغُيِّرَ مسمى تطبيق (تويتر) إلى تطبيق (X) بعد انتقال ملكيته اليه، إلا أن وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودية سابقًا الدكتور نزار عبيد مدني، رأى من الأنسب الاستمرار في استعمال تعبير( تويتر) و( التغريدات) والتي تَعَوَّدَ عليها النظر وألِفَها السمع - بحسب مدني - الذي وثق تغريداته في كتاب بلغت صفحاته 330 صفحة، مع الحرص على تثبيت التاريخ الذي نَشِرَتْ فيه التغريدة، وعدد حالات (إعادة التغريد Retweets)، وكذلك عدد حالات (الإعجاب Likes)، الواردة على كل تغريدة.
كان توجه مدني في بداية الأمر ترتيب التغريدات بحسب تسلسلها التاريخي، ولكن - يقول - بعد كثير من التفكير والتأمل استقر الرأي على الاكتفاء بتبويب التغريدات حسب موضوعاتها (إسلامية، وطنية، سياسية، فكرية، تقنية... إلخ)، والاقتصار على تثبيت تاريخ كل تغريدة، وعدد حالات إعادة التغريد، وحالات الإعجاب، مع صرف النظر عن إضافة التعليقات والملاحظات والمداخلات للاقتناع بعدم جدوى ذلك، ولمن يرغب في الاطلاع عليها فهي متاحة على تطبيق (تويتر).
إعادة الجنّيِّ إلى داخل القمقم
بعيدا عن تثبيت مسمى ( تويتر) في ثنايا الكتاب، وبعيدًا عن طول عنوان الكتاب الذي كان من الممكن اختزاله في كلمات أقل، نجد أن مدني يقر في مقدمته ( بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد شَدّتْ انتباهي في بادئ الأمر، وأثارت فضولي، وبدأت تستحوذ على جانب لا بأس به من اهتمامي، خاصة بعد أن بَدَأَتُ أَلاحظ أنها أخذت تشق طريقها بقوة نحو تجاوز وسائل الإعلام التقليدية، وأن تأثيراتها سوف تؤدي لا محالة إلى تداعيات كثيرة على الدولة وعلى المجتمع، وعلى العلاقات والتوازنات الداخلية والقواعد والمعاملات المنَظَمة لها.
وبناء على هذه المعطيات، فلقد وجدت أنه أصبح من الصعوبة بمكان إهمال هذه الوسائل أو تجاهلها، وأنه لا مناص من الاعتراف بأنها قد تمكنت من أن تفرض نفسها علينا، حتى أصبحت أمرًا واقعًا، وجزءًا من حياتنا اليومية، وأنه أصبح من المحال إعادة الجنّيِّ إلى داخل القمقم، خاصة بعد أن أكدَتْ الكثير من الشواهد على أن التطورات التقنية - التي ما فتئت تشهدها تلك الوسائل يومًا بعد يومٍ - باتت كثيرة ومتغيرة ومذهلة بشكل لا يصدق، مما وَلِّدَ لَدَيَّ يقينًا راسخًا بأن الضرورة تقتضي مواكبة هذه التطورات، وتتبع مسيرتها عن كثب لمعرفة إلى أين ستأخذنا؟ وماذا سيكون موقفنا من تأثيراتها على مجتمعنا، وعلى الأجيال الشابة منه بالتحديد؟ وبِت على قناعة تامة بأن واجبنا يفرض علينا ضرورة أن نتحول من مجرد مستقبلين لمثل هذه التطورات والتغيرات إلى صانعين لها، أو - على أقل تقدير - إلى قادرين على التمييز بين سلبياتها وإيجابياتها، وبين غَثّها وسمينها، وعلى الإفادة من مزاياها وفوائدها).
ملاحظات في غاية الأهمية والخطورة
يكشف مدني في الكتاب الدافع الرئيس الذي حدا به إلى الاقتناع بضرورة عدم الاكتفاء بالمتابعة عن بعد لما يجري في تلك الوسائل، وبخاصة في تطبيق (تويتر) وإنما لا بد من الانخراط المباشر فيه عن طريق المشاركة بتغريدات تعبر عما يختلج في صدره من مشاعر وأفكار، أو ما قد يخطر على باله ويطرأ على ذهنه من ردود فعل وتعليقات على أحداث ومواقف معينة، سياسية كانت أم اجتماعية، أم فكرية. ويظهر الكتاب جهدًا تحليليًا جادًا بذله مدني لإلقاء الضوء على بعض ملامح ومعالم شخصيتنا الوطنية، لما لذلك من أهمية قصوى، خاصة في ظل الأوضاع التي يعيشها فكرنا المعاصر، وما تتطلبه من تأكيد لهويتنا، وتعريف بِسِمَات شخصيتنا الوطنية وملامحها الأساسية.
سعي مدني الحثيث - حسب قوله - لسبر أغوار وسائل التواصل الاجتماعي، قاده إلى أربع ملاحظات أو انطباعات تمثل في مجموعها وضعًا في غاية الأهمية والخطورة:
الملاحظة أو الانطباع الأول: ثمة تيارًا جديدًا من الوعي بدأ يأخذ طريقه نحو التشكل لدى المجتمعات التي أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تمارس تأثيرًا ملحوظًا عليها - وفي طليعتها المجتمعات العربية الإسلامية - ويبدو ذلك واضحًا من حقيقة أن القوى الوحيدة التي كانت قادرة على تشكيل بنية وعقليات الأفراد في تلك المجتمعات، أو تغيير وجهتها لم تكن تتعدى الوسائل التقليدية التي ألِفَتْها تلكِ المجتمعات أو عايشتها ردحًا طويلا من الزمن، وكان لها القدح المُعلَّى في تشكيل عقليات أفرادها وتكوين شخصياتهم، والتي لم تكن تخرج عن: المنزل، والمدرسة، وما تبثه وسائل الإعلام التقليدية، وما يطرحه الأئمة والدعاة في المساجد والمنابر الدينية، أما في عصر ما بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فإن تلك المجتمعات باتت على أعتاب الدخول في مرحلة جديدة أصبحت تلك الوسائل فيها تسهم بشكل ملحوظ ومتزايد في تشكيل مدركاتها ورؤيتها للدنيا وللحياة، وإذا كان هذا الانطباع صحيحًا فإن مكمن الخطورة فيه هو أن تصل تلك المجتمعات إلى حالة تشهد فيها طغيان هذه الوسائل الحديثة والطارئة على الوسائل التقليدية الأخرى.
الملاحظة أو الانطباع الثاني: مفاده أنه لم يَعُدُ بخاف على كل متابع لوسائل التواصل الاجتماعي حقيقة أن كل من هَبَّ ودَبَّ بات يُدلي بدلوه، بل ويفتي أحيانًا، في أي شيء، وفي كل شيء؛ في الرياضة، وفي الاقتصاد، وفي السياسة، بل وحتى في الدين والمعتقدات، وهو الأمر الذي يترتب عليه أن القيمة الحقيقية للمعلومة الصحيحة والموثقة بدأت تفقد هويتها ومضمونها، بل وحتى هيبتها ومكانتها.
الملاحظة أو الانطباع الثالث: فهو بداية نشوء الاعتقاد الجارف لدى بعض المشاركين في هذه الوسائل، بأنهم أصبحوا (سادة أنفسهم)، وإذا كانت هذه الملاحظة تبدو في ظاهرها شيئًا إيجابيًّا، إلا أن التمعن في أعماقها يقودنا إلى اكتشاف أن الإمعان في أدق - من هو جدير بذلك، سواء اكان مدرس الفصل، او إمام المسجد، أو رجل القانون، أو الرئيس المباشر في العمل... إلخ، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تفريغ هذا الإنسان من القدوة التي يتمثل بها، والمرجعية التي يعتمد عليها، والتي ترتاح لها النفس ويطيب بها الخاطر، وفي هذا أيضًا ما فيه من المخاطر والسوءات.
أما الملاحظة أو الانطباع الرابع والأخير: فمفاده أن بداية تسلط وسائل التواصل الاجتماعي على العقول، وطفيانها على بقية الوسائل التقليدية الأخرى من شأنه أن يُنذرَ ببداية سقوط الثوابت وانهيار البديهيات لدى المجتمعات المتأثرة أو الخاضعة لتلك الوسائل، حيث إنه أصبح من المعلوم أن طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي هي الاجتزاء والاختزال، وأن كثيرًا من محتوياتها الغَثّ فيها أكثر من السمين، والتافه أكثر من الجِدِّي، و(المفبرك) وغير الحقيقي أكثر من الحقيقي أو الملتزم بالحقيقة، والخشية من كل ذلك هو أن يؤدي مثل هذا التوجه إلى فقدان الثقة في الثوابت المتعارف عليها في المجتمع.
هيمنة المجالين الرياضي والفني
كان مدني مترددًا في الإقدام على خطوة المشاركة في ( تويتر)، ولكنه وقع تحت تأثير ثلاث ملاحظات بدأت تتضح له من خلال متابعته لما يتضمنه تطبيق ( تويتر) من ردود وتعليقات:
الملاحظة الأولى: إن التطبيق المشار إليه لا يتحمل ثقل ووزن التغريدات التي تكون زاخرة بالأفكار الجادة، وحافلة بالتأملات العميقة في شتى العلوم والمعارف، وإذا صادف وأن تَضَمَّنَ مثل هذه الأفكار والتأملات فإن الاستجابة لها والتعليق عليها يكون عادة محدودًا جدًّا، مما يعكس في غالب الأمر عدم اهتمام (التويتريين) بهذا النوع من الثقافة والفكر.
الملاحظة الثانية: إن هناك عزوفًا ملحوظًا وملموسًا من جمهرة المثقفين والمفكرين في بلادنا من الانخراط في هذا العالَم - إلا ما ندر - وعلى استحياء، وإذا كانت هناك تغريدات من بعض أولئك المثقفين والمفكرين - وهي قليلة ومحدودة - إلا أنه من النادر أن تجدهم يعمدون إلى التعليق على تغريدات سواهم حتى إن اتسمت تلك التغريدات بطابع فكري متميز أو محتوى على درجة عالية من العمق والأصالة.
الملاحظة الثالثة: مفادها أنه في حين أن هناك تفاعلا محددًا من المشاركين في وسائل التواصل الاجتماعي مع الطروحات ذات المحتوى الفكري العميق، فإن التفاعل الأكبر والأكثر كثافة يكاد ينحصر بصيغة أساسية في مجالات محددة، مثل المجال الرياضي والمجال الفني، إلى جانب بعض الاهتمامات ذات الطابع الشخصي البحت.
بَيْدَ أن هذا التردد لم يدم طويلًا، حيث اتخذ في نهاية الأمر قرارًا يقضي بالبدء في (التغريد) في تطبيق (تويتر ) بما قد يطرأ على باله من أفكار وآراء واهتمامات.
الإسلام لا يضيق بأي نزعة وطنية نبيلة
يذهب مدني في الكتاب إلى أنه جدير بالملاحظة والتَّمَعُّنِ أن مشاركات وتعليقات ومداخلات أفراد مجتمعنا حول قضية الوطن والوطنية قد خلت في الوقت الحاضر، أو تكاد من التطرق إلى (الإشكالية) التي عاشها المجتمع في الماضي القريب، والتي كانت قائمة على أساس الضيق بمفهوم الوطنية، والتقليل من قيمة وأبعاد فكرة الوطن، وما يتصل بذلك من بث الروح الوطنية، وإذكاء شعلة الحماس للوطن والحث على الذود عن حياضه، والتضحية في سبيله، انطلاقًا من مظنة أن ذلك يتعارض مع دعوة الإسلام للعالمية، والتي فسرت على أنها تعنى تجاوز الانتماءات القُطْرية الضيقة. ويرى أن ( هذه (الإشكالية) - إن صح تسميتها كذلك - قد اختفت وتوارت عن الأنظار، وحَلّتْ محلها حقيقة أن الإسلام لا يمكن أن يضيق بأية نزعة وطنية نبيلة، فقد استوعب من قبل منازع العرب المتأصلة وطاقاتهم المكنونة المتنوعة، ووسع لها الطريق، وفتح أمامها الآفاق، وذلك باعتبار أن الإسلام دين واقعي تتكامل مقاصده مع ذرائعه.
الملامح والسمات الإيجابية
الدراسة تحتوى ثلاثة فصول، أولًا: يتضمن الفصل الأول تحليلًا للكيفية التي تتعامل بها بعض الفئات في المجتمع السعودي مع وسائل التواصل الاجتماعي، وبصفة خاصة مع تطبيق (التويتر)، وماهية تأثير تلك الوسائل على مواقف وتوجهات الرأي العام في المجتمع، وصولًا إلى المرحلة التي يمكن فيها تَلَمُّسُ بعض معالم ومحددات الشخصية الوطنية السعودية.
ثانيًا: ولما كانت الوسيلتان اللتان سوف يتم الاستناد عليهما في تحقيق الأهداف الموضحة في هذا الفصل هما: دراسة وتحليل التغريدات التي يسهم بها مختلف أفراد المجتمع السعودي. ثالثًا: أما الفصل الثالث، فهو يتضمن عرضًا موجزًا ومركزًا لبعض أهم عناصر مفهوم الشخصية الوطنية، سواء ما يتعلق منها بالتأصيل المنهجي والتاريخي لهذا المفهوم أو بمحاولة إيجاد تعريف محدد له، وذلك على ضوء تنازع الاختصاص بشأنه بين بعض العلوم الاجتماعية التي يَدَّعِى كل منها أبُوَتَه لهذا المفهوم واعتباره فرعًا من فروعه، أو بمدى ثبات الشخصية الوطنية على مرِّ العصور، ومدى استمرار الملامح والسمات الإيجابية والسلبية التي تتصف بها، وما يتصل بذلك من إمكانية اللجوء إلى عامل واحد متفرد، أو إلى عدة عوامل يمكن بها تفسير وتحليل الشخصية الوطنية.