شهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية في طبيعة الحروب وأساليبها، إذ تغيرت الأدوات والتكتيكات العسكرية بشكل غير مسبوق بفعل التطورات التقنية الحديثة، خاصة في مجال الطائرات المُسيّرة (الدرونات). هذا التحول أحدث ثورة عسكرية ظهرت ملامحها بوضوح في حروب مثل النزاع الروسي-الأوكراني، وحرب أذربيجان وأرمينيا، وحروب الشرق الأوسط.

منذ فترة، تحدثنا وفي أكثر من مقال عن كيف أصبحت الدرونات العنصر الحاسم في ساحات المعارك، إلى درجة أن أعدادها تفوقت على أعداد الجنود في بعض الصراعات، وفي الحرب الأوكرانية على سبيل المثال، تتحدث التقارير عن خطط أوكرانيا لتصنيع مليون درون من مختلف الأنواع، مما يعكس التغيير الهائل في طريقة خوض الحروب. ومع ذلك، كان هناك اعتقاد شائع لدى بعض التقليديين بأن هذا التحول يقتصر على الحروب غير التقليدية، بينما الجيوش الكبرى، كالأمريكية والصينية، ما زالت تعتمد الأساليب التقليدية، إلا أن الواقع اليوم يُثبت أن هذه التغييرات قد فرضت نفسها حتى على أكبر الجيوش في العالم.

في خطوة تاريخية تعكس مدى تأثير الحروب الحديثة، أعلن سلاح مشاة البحرية الأمريكي (المارينز) عن إعادة هيكلة شاملة لقواته، تتضمن هذه الخطة تقليل الاعتماد على المعدات الثقيلة التقليدية مثل الدبابات ومدافع الهاوتزر، استعدادًا للحروب المستقبلية. كما سيتم تخفيض الحاجة إلى المروحيات التقليدية والمروحيات المائلة مثل UH-1Y Venom وMV-22B Osprey.


في المقابل، يُعزز الجيش الأمريكي فئات أخرى من المعدات الأكثر حداثة وفعالية، مثل:

• زيادة مخزون شاحنات صواريخ HIMARS وصواريخها الموجهة بدقة، التي أثبتت قيمتها في النزاعات الأخيرة.

• شراء مركبات NMESIS الآلية المسلحة بصواريخ «Naval Strike»، المصممة للاستهداف الدقيق.

لم تكن الصين بمعزل عن هذا التحول، وفي خطوة جريئة، أعلن الجيش الصيني عن خطط لإنتاج نحو مليون درون لاستخدامها في العمليات العسكرية. هذا القرار يؤكد أن الجيوش الحديثة لم تعد تُقاس بحجمها أو عدد جنودها فحسب، بل بمدى قدرتها على التكيف مع تقنيات الحرب المستقبلية.

كما ذكرنا سابقًا (يمكنكم الرجوع للمقالات السابقة لمزيد من التفاصيل) إن الحروب الحديثة تُشبه تسونامي في تأثيرها على المفاهيم العسكرية التقليدية. لم يعد التفوق العسكري يعتمد على الدبابات والمدرعات فحسب، بل أصبح الذكاء الصناعي والدرونات والتقنيات الحديثة هي العناصر الحاسمة في حسم المعارك.

الإحصائيات الحديثة تُظهر أن درونات تُقدر قيمتها بمئات الدولارات فقط قد دمرت دبابات ومدرعات تُقدر قيمتها بملايين الدولارات في الحرب الروسية-الأوكرانية، على سبيل المثال، وتشير التقارير إلى تدمير ثلثي الدبابات والمدرعات باستخدام الدرونات.

الجيوش التي لا تواكب هذا التطور وتعتمد بشكل مفرط على المعدات التقليدية تُصبح عرضة للخطر. والدبابات أو المدرعات التي لا تُجهز بأنظمة حماية نشطة ضد الصواريخ ومضادات درونات حديثة تُعتبر أشبه بـ«بطة جالسة»، تنتظر التدمير مهما بلغت تكلفتها أو قوتها.

وفقًا لتقارير متعددة، تكبدت روسيا خسائر كبيرة في المعدات العسكرية منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وتشير التقارير إلى فقدان أكثر من 4.000 دبابة وما يزيد عن 11.000 عربة مدرعة. إضافة إلى ذلك، فقدت روسيا حوالي 240 مروحية خلال النزاع وآلاف قطع المدفعية، وحتى بعض المصادر المستقلة تشير إلى أن عدد الدبابات التي خسرتها روسيا يقرب بين 2000-3000 دبابة، وهذا يعادل عدد الدبابات في عدة دول. وهذه الأرقام تعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها الجيوش التقليدية في مواجهة التقنيات الحديثة مثل الدرونات والأسلحة الموجهة بدقة، ونعيد للتأكيد أن بعض المصادر تشير إلى أن ثلثي هذه الخسائر في سلاح الدروع بسبب الدرونات!! أي عشرات مليارات الدولارات وعشرات السنين من التصنيع والجهد ذهبت هباء منثورًا بسبب أدوات تكلف مئات الدولارات وتصنع خلال أيام!!

الجيوش القوية في العصر الحديث هي تلك التي تُعيد تعريف أولوياتها وتُوجه استثماراتها نحو الأدوات التي تُشكل مستقبل الحروب. الدرونات متعددة الأجيال، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وراجمات الصواريخ المتقدمة، والصواريخ الباليستية والكروز، أصبحت الركائز الأساسية لأي جيش حديث.

في ظل هذا التحول، يبدو أن الهيمنة العسكرية المستقبلية لن تعتمد على الحجم التقليدي للجيوش، بل على قدرتها على التكيف السريع واستخدام التقنيات الحديثة بكفاءة. الجيوش الذكية، لا الكبيرة، هي التي ستنتصر في حروب المستقبل.