من أبرز ما يميز النهضة التشريعية المتكاملة التي تعيشها بلادنا في هذا العهد الزاهر تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- شموليتها لجميع جوانب المنظومة العدلية، بحيث أصبحت عملية متكاملة وغير مسبوقة في تاريخ المملكة، لأنها لم تقتصر على مجرد استكمال منظومة القوانين والتشريعات، بل شملت تطوير كل العناصر البشرية ذات العلاقة بالسلك القضائي، وذلك لاستكمال النواقص، تجسيدا لما جرى التأكيد عليه في رؤية السعودية 2030، بعد أن اتضحت الحاجة إلى مسايرة الواقع الذي يعيشه العالم حاليا ومواكبة المتغيرات بما لا يتعارض مع مقاصد الشرع الحنيف.

ومع أن بوصلة الاهتمام قد اتجهت في البداية نحو استكمال وإصلاح الأنظمة والتشريعات، فإن ذلك كان توجها طبيعيا وصحيحا لأن القوانين والأنظمة هي روح العملية القانونية؛ لأنها هي التي تحكم التعامل وتحدد آلياته. لكن هذا التوجه كان مقترنا في ذات الوقت بتوفير العناصر المساعدة على تحقيق ذلك الهدف، مثل ترقية الكادر البشري من قضاة ومحامين لأنهم هم الذين يقومون في النهاية بالتطبيق الفعلي لتلك الأنظمة والقوانين، بما يؤدي في النهاية لترسيخ مبادئ العدالة والشفافية، وتحقيق العدل والنزاهة والمساواة والشفافية، وتعزيز سيادة القانون وتأكيد دوره في جميع جوانب الحياة العامة.

وإن كانت ممارسة مهنة المحاماة قد انتشرت في المملكة عقب إقرار نظام المحاماة الذي صدر في 15 أكتوبر 2001، فإن الحاجة ظلت ماسة، خلال السنوات الماضية، لمراجعة ذلك النظام لمواكبة المتغيرات التي يشهدها العالم بصورة متسارعة وشبه يومية.


لذلك زفّ وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني، البشرى لجموع المحامين عند افتتاحه مؤتمر المحاماة السعودي، الذي نظمته الهيئة السعودية للمحامين، أوائل الأسبوع الجاري في الرياض، عندما أعلن أن الوزارة والهيئة تعملان حاليا على مشروع شامل لتطوير نظام المحاماة ومراجعته بالكامل، بهدف تعزيز المهنة وتسهيل الإجراءات المرتبطة بها، مع التركيز على التحديثات التي تتماشى مع التطورات القانونية والمجتمعية والتنموية في المملكة.

ومن أهم ما قاله الوزير إن «الرؤية لمهنة المحاماة لا يمكن أن تستند إلى نظام صدر قبل 25 عاما»، وهذا الفهم المتقدم يؤكد حقيقة أن هذه المهنة والتي ترتبط ارتباطا مباشرا بمعاش الناس وحقوقهم تتطلب مسايرة حياتهم بصورة متواصلة لأنها لا تنفصم عنها. وأضاف الصمعاني أن نظام المحاماة الجديد سوف يراعي جميع الجوانب المهنية والتنموية، وأن هناك توجها نحو تقليل الأعباء الإدارية على المحامين، كما أشار إلى البرامج والفرص التدريبية التي يقدمها مركز التدريب العدلي والهيئة السعودية للمحامين لخريجي وخريجات التخصصات الحقوقية، والمحامين والمحاميات، وتجمع بين التدريب العملي والنظري مثل برنامج تأهيل المحامين وغيره.

لذلك فإن تلك الخطوات سوف تسهم في تتويج الجهود المتواصلة التي تبذلها السعودية لتحسين وترقية منظومتها القضائية والتشريعية، وذلك من واقع الأهمية الكبيرة التي تمتاز بها مهنة المحاماة وإسهام رجال القضاء الواقف كما يطلق عليهم في رد الحقوق لأهلها.

فالمحاماة ليست مجرد مهنة يتكسب منها المشتغلون بها، بل هي رسالة في المقام الأول؛ لأن المحامين هم الضلع الثاني في المنظومة الحقوقية مع القضاة، بل إن الدور الملقى على عاتقهم في القيام بهذه المسؤولية أكبر من الذي يقع على عاتق القضاة لأنهم الأكثر احتكاكا بالجمهور والأكثر قدرة على التواصل معهم، وهم الذين يوضحون للمتقاضين حقوقهم وواجباتهم قبل الشروع في الدفاع عنهم.

وخلال رحلتي الطويلة في هذا المضمار الشريف، والتي تعود لأكثر من 30 عاما فقد صادفت الكثير من الصعوبات والمشاق، ووقفت بنفسي على مقدار التضحيات الجسام التي بذلها الرعيل الأول من المحامين السعوديين، والذين كان همهم إرساء هذه المهنة وسط المنظومة العدلية رغم ما لاقوه من تعنت أصحاب النظرة القاصرة، لكنهم صبروا وناضلوا وعملوا بجد حتى استطاعوا تغيير نظرة المجتمع لمن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا عونا للمحتاج ونصرة للضعيف.

وعودة إلى مؤتمر المحاماة السعودي الذي نظمته الهيئة السعودية للمحامين، خلال الأيام الماضية، فقد كان فرصة لترسيخ الرؤية الإيجابية عن هذه المهنة في أوساط المجتمع، وأتاح للمشتغلين الجدد بهذه المهنة فرصة الاحتكاك بكوادر وطنية ذات خبرات عريضة، وكان بمثابة منصة لتبادل المعارف ونقل الخبرات.

لذلك فإن متطلبات المرحلة لتطوير مهنة المحاماة في بلادنا تدعو لتبني نهج شامل يعزز من كفاءة الممارسين، ويرفع من معايير المهنة، ويواكب التحولات القانونية والاقتصادية التي تشهدها المملكة. من خلال تمكين وتعزيز دور الهيئة بعد هذه التجربة الناضجة لتصبح أحد الآليات القانونية الوطنية تلبية لمتطلبات رؤية المملكة 2030.

وأخيرًا أود أن أهمس في آذان إخواني وأخواتي المحامين والمحاميات بضرورة الحرص في جميع تصرفاتهم على ترسيخ الصورة الحقيقية عن هذه المهنة والرسالة، واستحضار أنهم رسل للعدالة، يساعدون المظلوم على إثبات مظلوميته وانتزاع حقوقه، والبريء على إظهار براءته، وإعانة القضاة على إصدار الأحكام العادلة وضمان مسار الحق والإنصاف.

لا مكان وسطنا لأي تجاوزات فهذه المهمة الأخلاقية لن يستطيع القيام بها إلا من يحرص على صيانتها من أي ممارسات سالبة، عبر الالتزام المهني الصارم، والممارسة المنضبطة التي تسمو على تحقيق المكاسب المادية والمهنية، والبعد عن كل محاولات تضليل العدالة أو حرفها عن مسارها الطبيعي.