وتصغي إلى هذه الأنغام العذاب، تجلو لك الإنسانية في صورة وضيئة قد برئت من الزيف، وتطهرت من الإثم، وشاعت فيها روح «الحب»

لم يكن لغوا ما أفاض فيه أهل لم الحنكة والتجربة، من الإشادة بالصمت، وتبيان ما له من فضل.

ولم يكن عبثًا إجماع الأولين على جسامة ما يلقاه الإنسان، من عثرات اللسان! وقد أوجزت الإنسانية هذه الحقيقة الكبرى، في الحكمة البالغة التي تقول:


«إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب!» وما أصدق من يقول:

إن شئت أن تكسب صداقة محدثك، فكن على الإصغاء إليه، أحوط من أن تتكلم..

والحق أن الصمت فضيلة لا يدرك مزيتها إلا الراسخون في فلسفة الحياة..

ولكن ما هو الصمت؟ يخطئ من يحسبه عملًا سلبيًا، أو - بتعبير أدق - إمساكًا عن العمل.

ليس الصمت عزلة بين الصامت وما حوله، ولا بينه وبين نفسه.

العزلة جمود ووقف، فأما الصمت فهو حركة وحياة، أو لعله من خير ألوان الحركة والحياة!

ليس للصمت معنى إلا أنه (إصغاء)، وأن كان الإصغاء ضروبًا وأفانين.

إذا عقل الإنسان لسانه، وأطبق شفتيه، فكأنما هو يهيئ نفسه لاستقبال أنواع شتى من الأصوات والهواتف والمناجيات.

ولهذا الاستقبال موردان:

أحدهما: خارجي.

والآخر: باطني.

فالمورد الأول يوافيك بما هو خارج عن نفسك، والمورد الآخر يصل بينك وبين سريرتك.

ولا ريب أنك غير مستغن عن ذلك المورد الخارجي الأول، ولكنك إلى المورد الباطني أشد حاجة، وهو لك أكبر جدوى.

أفاتك أن كونك الشخصي يكمن فيه مذياع عجيب، يستطيع أن ينقل إليك أدق حقائقك، وأصدق أخبارك، وأن يقف بك على دنياك الخاصة، دنياك الزاخرة بالخفايا والأسرار؟

لو عرفت كيف تدير مذياعك، لا نفتح لك المغاليق من طواياك، ولسمعت أدق الخلجات في مشاعرك

مجلوة في صراحة واعتراف..

ولربما راعك ما تسمع، أو اقشعر بدنك، وتزلزل له كيانك، فبدوت في خزي وتصاغر، ولم تعرف كيف تواري نفسك عن نفسك!

ولكنك على أية حال تحس بأنك قد كسبت غنمًا بما عرفت من خفية أمرك، شأن المريض حين ينكشف له من علته ما تعاصى عليه فهمه، فيعد ذلك غنمًا ليس بالقليل.

وما أكثر ما يكشف المذياع فيك من سيئات ومناقص..

لتعرفن أنك أكذوبة بارعة، تسترها غلائل أنيقة..

أكذوبة على القريب منك.

أكذوبة على البعيد عنك.

بل إنك لأكذوبة من نفسك على نفسك!

ولكأني بك قد ضقت بهذه الحقائق التي جاهرك بها عقلك الباطن، فرأيت الدنيا صفحة سوداء حيالك، واستشعرت الازدراء بهذا المجتمع المشوب بالأضاليل، وتجلى لك زيف الجاه، وما إليه من عروض الحياة، شأنها تافهًا لا يزن جناح بعوضة!

فلا تملك، وأنت في غمة من أمرك، ثائر متمرد، إلا أن تتلمس في غير هذا المجال فرجًا، وتتنسم في غير ذلك الأفق متنفسًا، فإذا بك قد ملت على المذياع تدير أزراره ناحية أخرى.. ومن ثم ترقى إلى سمعك أنغامًا موسيقية فيها رقة ولطف، لا تفتأ تسري بين جوائحك، تشيع فيها الطمأنينة والرضا، وتبعث فيها الأنس والمرح.

إنك لتصغي وتصغي وتصغي إلى هذه الأنغام العذاب، حاملة إليك في رفيفها معاني كريمة، ومثلا رفيعة، تجلو لك الإنسانية في صورة وضيئة قد برئت من الزيف، وتطهرت من الإثم، وشاعت فيها روح «الحب» الخالص.. الحب في أرفع معانيه، وأوسع مراميه.. الحب في مدلوله الشامل الذي يؤتي الحق والخير على أجمل ما يكون الحق والخير.

1952*

* كاتب وأديب مصري «1894 - 1973»