يُقال كان النَّجديون يُثنون على المَرأةِ التي لا تُحدِّث الرجالَ الأجانب، وكُلّما كانت طَرمَاء أمامهم فهو أفضل، ويلفتُ النَّظرَ إلى أنَّ صفةَ الخرس هذه سُمِّيَ بها بناءٌ مُصَغَّر، له قاعدة بفتحاتٍ صغيرة، يُوضَع أعلى بابِ البيتِ النجدي القديم، ليُنظَر به إلى الطّارق. وقد سألتُ مُسنًّا من أهلِ ثرمداء -بعد أن كَرَّرَ لفظةَ «طَرْمَة»- هل هي للنساءِ فقط؟ قال: «نعم، فلا يليق بالرجلِ أن ينظُر إلى الطارقِ وهو محتجب عنه. إنَّه يتحراه دائمًا ليُسَامره بالأخبارِ ومشاقِّ الحياة». وكنتُ أسأله لأرى هل التسمية لصفةٍ بالبناءِ نفسه أم اقتباس من صفةٍ تليق بالمرأة آنذاك؟ ففكرة الطَرْمَة موجودةٌ في أماكن أخرى لأغراض متنوعة، لكنَّ إجابةَ هذا الرجل العتيق مُركّزة على تجربته التي صنعتها حواسُّه المباشرة مع أهله وجيرانه الذين يُشاركونه أفقَه، ومجتمعه الصغير الذي ضاقَ بما لا يُنَال، وهذه الذاكرةُ صادقة إذا توجّهت إلى مواقعها المحسوسة مباشرةً ولم تتجاوزها، وهي تُلزِم الحاكمَ عليها بالتوقّف عند حدود مقصدها، لهذا فقول هذا المُسنّ صحيح وخاطئ في آنٍ واحد؛ لأنَّ فكرة الطَرمة متعددة لكن بأسماء مختلفة ومن ثمَّ بغاياتٍ مغايرة، فالأسماءُ إما أن تكون لأشياء واعية أو غير واعية، فالواعية إما أن تكون بذاتٍ كالإنسان، فيُعوَّل فيها على الذاتِ -الناظمة سلسلةِ حياته الاجتماعية- لاستخراج هويته التي يظهر بها، الهوية التي جاءت من تراكم سِنيِّ الحياة، إذ لن يُعرَف الفرق بين أَحمَديْن إلا إذا عُرِفت هويتهما التي جاءت من حياتهما وحياةِ المجتمع الذي سَمَّاهما. أو تكون واعية لكن بلا ذاتٍ تنظم الهويةَ كالحيوانات، فلا يُعوَّل عليها فرديًا إلا من خلال صاحبها الإنسان الذي يُسمّيها، وإلا فهي معنى جماعي كالقولِ الساخر: «الكلاب أوفياء». أما إذا كان الشيءُ الذي يُراد تسميته غير واعٍ ألبتة كالطَرمة، فإنه لن يُعوّل على ذاته -فلا ذات له- بل على ذوات صُنّاعه وهويتهم التي ستظهر بالتسمية مباشرة، والنجديون سموا هذا الشيء «طَرْمَة»، ويُقال إنَّها في أماكن أخرى تُسمّى «مَشربيّة»، لكنَّ الملاحظ أنَّ المشربيةَ بناءٌ أكبر من أن يكون نتوءًا مُصغّرًا في الجدار، لهذا هي ليست للمراقبةِ فحسب، بل أيضًا للتبريدِ والإضاءةِ ولأغراضٍ أخرى، فتاريخ المشربية بدأ في العصر العباسي، لهذا ربما يُقابل المشربيةَ -عند النَّجديين- الروشن وليس الطرمة، وسيكون السؤال: هل الطرمة هي النتوء الذي يُشير إلى مكان الروشن من البيت كالمئذنة للمسجد؟ الروشن -كما يُعرّفه بعضُ النجديين- هو مجلس في الدور العلوي، له مصعد خاصٌّ، يستقبل فيه صاحبُ البيتِ ضيوفَه، ويُطِلّ منه إلى الأرضِ الخارجية. والطَرمةُ -بحسب الصور الموجودة للبيوتِ النجدية القديمة- تقع فوقَ البابِ مباشرة، فربما هي علامة وجود الروشن، وسواء كانت الطرمةُ منفردةً أو جزءًا من الروشن، فنحن أمام تسميتين لشيئين اثنين، وهذا له دلالته في أنَّ فعلَ الرجلِ -وهو يُطِل من الطَرمة- فعلُ نساءٍ، لكنَّ جلستَه في الروشن جلسةُ رجال، وقد تُطِلُّ المرأةُ من الطَرمة، لتُخبر زوجَها بالطارق، فإن كان ضيفًا جُهِزَ له الروشن، وإن كانَ عابرًا، فيُفتَح له الباب مباشرة دون تجهيز الروشن. وعلامة التفريق بين الشيئين ما وجدته عند ابن قاسم النجدي لمَّا مرَّ على مسألة: «لا يجوز إخراج روشن على أطرافِ خشب»، فقال: «..وتُسمّيه العامةُ طرمة»، وكأنَّ الروشن تسميةٌ نخبوية رجالية لا تعترف بالطرمة والنظر فيها. أما الطرمة فهي تسميةٌ عامة ابتُكِرت من صفاتٍ نسائية. وحين توغلتُ في المصادر وجدتُ أنَّ العربَ سَمَّوا البيتَ المبني من خشبٍ -كالقبةِ- «طارمة»، وكأنَّ هذا البيت يُخرِس مَن دخلَ فيه، إذ لا حديثَ حينها إلا حديث العيون والآذان، وهذا التَّعريفُ لا يتناسب مع الروشن مجلسِ الرجال وأحاديثهم، بل يتناسب مع التفنّن في المشربية أيام الدولة العثمانية، وتحديدًا صمت النساء وهنَّ يُراقِبن الأحداث. أخيرًا لا يَستغربنَّ قارئٌ -مر من هنا صدفةً- من قول المقالةِ «إن الإنسانَ شيءٌ»، فالقرآنُ قال «كل شيءٍ هالك إلا وجهه»، فلفظُ «وجهه» داخل ضمن الشيئية، فكيفَ بالإنسان؟ هذه شيئية تستخدمها العربُ في أساليبها، وقد جاء القرآنُ موافقًا لها. ولو اعترضتَ هل العرب -إذن- تقول في مناداةِ زيدٍ من الناس: «تعالَ أيها الشيء»؟ فإنَّ هذا الاعتراض مَزجٌ بين مسارين، الأول أن يُسمَى زيدٌ شيئًا ما دام أنه إنسان والإنسان شيء، والثاني: أن يُعتقد -ضمنيًا- بأنه شيء يُوجِد ويُوجَد، وأسلوبُ العربِ من الثاني لا الأول، لهذا يُشيئون الإنسانَ بالإضمار كما في الآية، وربما لم يأتِ هذا الاستغراب إلا من الشيئية التي طرأت ثقافيًا كقول: «لا تُشيء الإنسان»، أي لا تجعله سلعةً تتعامل معها كالأشياء، ولم تُقَل هذه المقولة إلا بعد أن طَرأت مشكلةٌ في سياقٍ ليس من أصلِ تاريخِ العرب، فالعرب يتعاملون مع الطبيعة وخالقها بالحواسّ والإجماع، ومن ثمّ فإنَّ الإنسانَ ليس أرفع من الأشياء إلا بكونه واعيًا لنفسه -كشيء- وللأشياء التي يستخدمها وتستخدمه، وهذا الوعي جزء من الحواسِّ المرتبطةِ بالله، وليس شيئا اسمه «العقل».

التفاتة:

«الطَرمة» تحولت إلى ما يُسمَّى «عينٌ سحرية»، وصارت للناسِ كلهم بعد أن ضاقت المعيشةُ بالمكانِ واتّسعت بالزمان، وصارت الشقة هي العنوان، عنوان مَن لا ينتظر «الضِيْفان». والشقة مأخوذة من شق البيت، كأنَّ كلَ واحدٍ أخذَ جزءًا من ذاكرةِ البيت الجامع، واستقلّ به في بقعةٍ صغيرة، ومأخوذة أيضًا من الشُقَّة بمعنى المَشقّة، وهذا الاشتقاق أعادني إلى كلامِ الرجل المُسنّ حين تَحدثَ عن مشقةِ ذلك الزمن الذي تَحمِله الجماعةُ متكاتفةً، لكنَّهم حين تَفرقوا إلى شُققٍ فقد حملَ كُلُّ واحدٍ مشقّتَه لوحده، وكأنَّ تسميتهم للشُقةِ جاء من انتزاع مشقةٍ من مشقّاتِ البيتِ الكبير، ليتفرد بها مَنْ حَملها معه إلى البيتِ الصغير.