وتجسيداً لنظرته الثاقبة دأبت الحكومةُ الفرنسيّة على تخصيص منحٍ دراسيّة للشباب في بلغاريا وغيرها، ولكنّ السلطات الستالينيّة في ذلك البلد البائس كانت تُجهض تلك المُبادرة عبر تخصيص المِنَح لعجائز وشيوخ لا يتحدّثون الفرنسيّة. ولكنّ الحظّ عشيّة أعياد الميلاد في العام 1965 كان حليفاً لكريستيفا، فقد غادر مديرُ معهد الأدب الشيوعي المتزمّت، حيث كانت كريستيفا تُعِدّ أطروحتها إلى موسكو، فارتأى المُشرف على بحثها إرسالها إلى السفارة الفرنسيّة لإجراء اختبار اللّغة، فكان أن اجتازته وحزمت حقائبها إلى باريس وفي جيبها خمسة دولارات فقط.
علم الجمال
عاصرَت جوليا كريستيفا تيّاراتٍ فلسفيّة وأدبيّة متلاطمة في عاصمة النور، غير أنّ البناء النظري الذي تشكَّل وفقاً له خطابها يضرب بقوّة في تيّار التحليل النفسي، بدءاً من فرويد وصولاً إلى جاك لاكان. وعليه، فإنّ المنجزات اللّغويّة والإبداعيّة والسياسيّة لكريستيفا بصفة عامّة تتوكّأ على فكرة النموّ البشري المبكّر كما رسَمها تيّارُ التحليل النفسي. وفي هذا السياق توجِّه ناقدتُنا الكبيرة نقدَها إلى نظريّة لاكان، من أبرزها محدوديّة هذه النظريّة وقصورها. على أنّ نقدَها هذا ينبثق في حقيقة الأمر من فكرة سبْرِ غور الحدود الفاصلة بين الذّات والآخر التي أشار إليها جاك لاكان نفسه. ولاحقاً سيشكّل النِتاج النظري لكريستيفا الخيطَ النّاظمَ لأقطابِ الموجة الثانية من النسويّة الفرنسيّة، مثل إريغاري وسيكسوس وكوفمان. إلّا أنّ علاقة كريستيفا بالحركة النسويّة ستعصف بها هزّاتٌ متباينة، فقد جرى إدراجها بشكل غير دقيق في ثالوثٍ نسوي، قطبَاه الآخران لوس إريغاري وهيلين سيكسوس، فكانت كريستيفا بذلك هدفاً لانتقاداتٍ طاولت الثالوث، حيث تشابهْنَ في أنّ أيّاً منهنَّ لم تولد في فرنسا، فإريغاري من مواليد بيرنيسارت البلجيكيّة، وسيكسوس وُلدت في وهران الجزائريّة.
ومقاربة المُنجز الخاصّ بكريستيفا يغدو يسيراً لدى إبراز المكانة الفريدة التي يحتلّها الدرسُ الفلسفي للإستيطيقا (علم الجمال) في الفكر الأوروبي في القرنَيْن التّاسع عشر والعشرين، وهو خطاب تمتدّ جذوره في تيّار الفلسفة المثاليّة الألمانيّة والحركة الرومنطيقيّة. وتذهب كريستيفا إلى أنّ الإستطيقا في كلٍّ من المثاليّة الألمانيّة والرومنطيقيّة كانت تأخذ بالتشكُّل في الوقت عيْنه مع تبلْور خطاب الفلسفة السياسيّة، ويُعَدّ كتاب فردريك شيللر «في التربية الجماليّة للإنسان»، الذي نقلته إلى العربيّة وفاء محمّد إبراهيم، أبرز مثال كلاسيكي على ذلك. وهذا التعاقُد بين الإستطيقا والسياسة سيصل إلى ذروة التوهُّج في النظريّة الأدبيّة الفرنسيّة في عقدَيْ الستّينيّات والسبعينيّات من القرن العشرين. وكريستيفا التي هي المُمثّل الرئيس لهذه المدرسة ستنظر للنصّ بوصفه ممارسة بالإمكان مضاهاتها بالثورة السياسيّة، بحيث إنّ إحداهما تُحدث في الذّات ما يقذفه الآخر في المجتمع.
وفي نظريّة كهذه يغدو التساؤل مشروعاً عمّا إذا كان الفنّ، وخصوصاً ذاك الفنّ المتغلغل في اللّغة، أي النسيج اللّغوي المشترَك لوجودنا، مصدراً للتجديد الاجتماعي؟ وهل يُعَدّ حقّاً تجلّياً للثورة السياسيّة؟ وهذا تساؤل يصطدم به كلّ قارئ لمتن كريستيفا الفكري، وينتظره في أيّ دربٍ يتّخذه لمُقاربة نصوصها.
قطعاً، هناك محاولة مثاليّة للدفاع عن مثل هذا الربط بين الفنّ والسياسة على وجه التحديد، في حال ثورة كريستيفا الهائلة في اللّغة الشعريّة. والتي يتأتّى من أطروحتها في إحدى تشعّباتها إلى إحداث المُمارسات الفنيّة في المُجتمع الأوروبي في أواخر القرن التّاسع عشر، تغييراً جذرييّاً في وضْع «الذّات النّاطقة»، وعلى وجه الخصوص في علاقتها باللّغة. وبما أنّ الأخيرة تنظر إليها كريستيفا بوصفها أُفق الحياة السياسيّة الذي لا يُمكن تجاوزه، فإنّ المشهد الفكري يُختزَل في ما يقوم به مقام معادلة كبرى تُماهي الثورة في اللّغة مع الثورة السياسيّة.
من جانبٍ آخر، تعرض كريستيفا في بداية كتابها «الثورة في اللّغة الشعريّة» وصفاً لكيفيّة اكتساب اللّغة وتكوين «الذّات الناطقة»، وتُعبِّر عن هذه العمليّة من خلال مفهومَيْ السيميائيّة والرمزيّة، وعملت مذّ ذاك على تطويرها حتّى وجدتْ شكلَها المُكتمل في نظريّة جدليّة للآيديولوجيّة والمجتمع. والكتاب يستهلّ سلسلة نقوده بتوجيه نقد إلى المثاليّة التي ما انفكَّ عِلم اللّسانيّات غارقاً في ربقتها، وتحديداً في استخراجه «الذّات الناطقة» من الجدليّة الاجتماعيّة التاريخيّة، غير أنّ التبصُّر في ذلك يكشف لنا أنّ كريستيفا لا تُمارِس ما تبشِّر به. والثلث الأوّل من الكتاب مكرَّس لشروحات توضِح وصفَها التجريدي لحيازة اللّغة من خلال تفاعل «الذّات الناطقة» مع أحداث التاريخ، ثمّ تقوم بدراسةٍ عميقة للمُجتمع الفرنسي في أواخر القرن التّاسع عشر، تُشدِّد فيها كريستيفا على أنّ الظروف كانت مهيَّأة للمُمارسات النصيّة الطليعيّة لكلٍّ من الشاعرَيْن الكبيرَيْن مالارميه ولوتريامون، فهي شواهد على تحوُّلٍ كبير في «الذّات الناطقة»، لا تزال تجلّياته متوهّجة حتّى الآن.
لا ريب أنّ أطروحةً أصيلةً ومُعمَّقة كهذه تشترط أساساً فلسفيّاً وتاريخيّاً كثيفاً. وهذا ما يلمسه القارئ منذ العتبة الأولى للكتاب، فالمصادر التي تستشيرها كريستيفا تأتلف فيها أطيافٌ من الأعمال المؤثّرة، لفلاسفة من طراز ألتوسير، وأوستن، وباختين، وبارت، وباتاي، وتشومسكي، ودولوز، ودريدا، وفرويد، وهيغل، وهوسرل، ولاكان، وليفي شتراوس، وماركس، وسارتر، وسوسير. وتخصِّص كريستيفا حيّزاً لنقد الديالكتيك الهيغلي والماركسي، ومدوّنة التحليل النفسي بنسختَيْها الفرويديّة واللّاكانيّة، ومنجزات اللّغويّات البنيويّة والسيميائيّة، فضلاً عن تفنيد تيّار ما بعد البنيويّة (أو الاختلاف) عند دولوز ودريدا في الواقع. وسيجد القارئ في الكتاب فصولاً في غاية الثراء الفكري، مثل تحليل بدايات دريدا الفلسفيّة، وبخاصّة المبكّرة منها، وإعادة نظر في النظريّة الماركسيّة حول الإيديولوجيّة والدولة، وحفريّات معرفيّة في خطاب المجتمع الفرنسي في القرن التّاسع عشر، وبخاصّة في التحوّلات التي طرأت على أوضاع الدّين والأسرة والفنّ.
التمزُّق السيميائي
يَطرح كتاب «الثورة في اللّغة الشعريّة» عدداً من الأسئلة الجوهريّة، من بينها التساؤل إن كان الفنّ وتجاوزاته الكامنة مصدرَ إلهامٍ أم تعبيراً عن ثورة اجتماعيّة؟ أو هي بالأحرى ضرب من سخاء يبرهن عليه النظام الاجتماعي حينما يأخذ في التوسُّع والتمدُّد؟ وقَبل ذاك هل يصحّ القول بوجود وشيجة تأخذ بتلابيب الشعر والفلسفة والسياسة في آنٍ واحد؟
وكريستيفا ترى أنّ النصوص الأدبيّة في القرن التّاسع عشر الثوري والرجعي معاً تميط اللّثام عن حقيقتَيْن: أوّلهما، اجتراح المُمارسات الفنيّة في المجتمع الأوروبي في القرن التّاسع عشر تغييراً جذريّاً في وضْعِ الذّات الإنسانيّة. وثانيهما، أنّ اللّغة بوصفها الأُفق الذي يعجز وجودنا كذواتٍ ناطقة عن تجاوزه، مقدَّرٌ لها إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعيّة القائمة، إن لم نقارب تمزّقاتها وتجديداتها في الفنّ الطليعي.
للحقّ، فإنّ كريستيفا من خلال رفضها تقييد أهميّة اللّغة بمعناها، لكي ترى فيها نظامَ تمثيلٍ فقط، فإنّها تُشدِّد على الطابع الماديّ للّغة، وعلى الفضاء والشروط الذي تنشأ فيهما. ففي الكتاب نفسه تلقي الضوء على طرائق اللّغة المتباينة تحت عنوان «السيميائيّة والرمزيّة». ويستند تحليل كريستيفا للسيمياء إلى مفهوم سيغموند فرويد عن الدوافع الغريزيّة، والعقل الباطن. أمّا الرمزيّة فإنّها تنهل من النسخة الفرويديّة واللّاكانيّة ما انتهت إليه من وظيفة التمثّلات واللّغة عينها كمنظومة للإشارة.
وإذا كان السيميائيُّ يحتاج إلى الرمزيّ ليمثّله، فإنّ تسجيل الرمزي يتطلَّب انبثاقَ وتدفّقَ السيميائي إن رغب في أن يكون قابلاً للتغيير. وهو ما يوضح التعاقُد المتبادَل بين السيميائي والرمزي. فالذّات ليس بمقدورها التنكُّر للرمزي، كما لا قِبَلَ لها بالاستغناء عن السيميائي. فحاجة الرمزي إلى تجاوُز الحركة الشعريّة أو اختلاف الإيقاع الموسيقي الذي يميِّز التمزُّق السيميائي والرمزي هو ما يكون وصفه عن حقّ بالضرورة الأخلاقيّة والسياسيّة.
جوليا كريستيفا
( Julia Kristeva) فيلسوفة بلغارية فرنسية ومحللة نفسية وناشطة نسوية ومؤخرًا روائية
تعيش في فرنسا منذ منتصف ستينيات القرن العشرين.
أستاذة فخرية في جامعة باريس ديديرو.
ألَّفت أكثر من 30 كتابًا، منها:
قوى الرعب، وأساطير الحب، والشمس السوداء: الاكتئاب والسوداوية، وبروست والإحساس بالزمن، وثلاثية أنثى عبقرية.
مُنحت وسام جوقة الشرف الوطني
جائزة هولبرج الدولية التذكارية
جائزة هانا أرندت
أصبحت مؤثرة في التحليل النقدي الدولي والدراسات الثقافية وحركة النسوية بعد أن نشرت كتابها الأول في عام 1969.
تتضمن أعمالها كتبًا ومقالات تتناول:
التناص، وعلم العلامات (السيميائيات)، وعلم اللغويات (اللسانيات)، والنظرية الأدبية والنقدية، والتحليل النفسي، والتحليل السياسي والثقافي، والفن وتاريخه، والسيرة الذّاتية والمذكرات.
*كاتب من الكويت
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية. وُلدت عام1941