من ضمن المسار اللامحدود لتفاعل الشعري والفلسفي، ثمة منعطف واسع يضع كلاً منهما وجهاً لوجه، منعطف يغص بالمرايا العاكسة لماهيتهما المسكونة بروح الغرابة، تلك التي تُتقن فن التنكر لجميع التعريفات الصورية الطابع والتحديدات، وهذا بالذات ما دَفَعَ مارتن هايدغر للقول: «إن الخاصية الجوهرية للفكر، بوصفها عملاً فنياً للشاعر، ما تزال محتجبة».

بيد أن هذا الأمر ليس بالمعطى الجديد في الكتابة الشعرية، ولاسيما أنها تتمأسَس على إواليّات اليقظة، والشغف بالمجهول، والانفتاح، والخلق، والإبداع...إلخ، وهي الإواليّات نفسها التي لا تني تُنظِّم كينونة الإنسان، ووجود الموجود. وتأسيساً عليه، يُمكننا أن نجازف بالقول: لا وجود لخطاب فلسفي أو شعري يقوى على الاستغناء عن إغراءات الدهشة المنبجسة عن التأمُّل في الإنسان والوجود.

يُظهر الشاعر والكاتب المغربي رشيد المومني أن مفهوم اللامتناهي هو مفهوم زئبقي قوامه الانفلات والتملُّص، ومن ثم تأتي تعددية دلالاته، ما يجعله مفهوماً مرتحلاً بين حقول معرفية شتى: «إن المفهوم الذي يثبت فاعليته الإجرائية في حقل ما قد يكون مؤهلاً لإثبات الإجرائية ذاتها، في حقول محايثة.. فاعلية قد تكسبه دينامية إضافية بفعل تطعيمه وتفاعله بمفاهيم الحقول التي يحل ضيفاً عليها. قد يكون الأمر شبيهاً بانتهاك مبرّر لحرمة الآخر، وشبيهاً بمَيل سرقة نبتة الخلود. كما هو شبيه بسرقة برومتيوس لنار آلهة الأولمب، كي يرقى إلى تطوير وجوده الإنساني».


ويؤدي اختراق المفهوم فضاءات غريبة عن إشكالاته إلى انبجاس ضرب من المتعة مأتاها الإقبال على المحظور والممنوع والمحرَّم، وهي متعة بإمكاننا أن نُدرجها بحسب المومني «ضمن استماتة الذات كي تُعدِّد حضورها الفعلي أو الرمزي، سواء في فضاءاتها الخاصة بها أم في تلك المحايثة له. فالمفاهيم شبيهة بنيازك دلالية تجوب دلالات الفكر».

اللامتناهي بين الفلسفي والشعري

لا ينكر رشيد المومني جماع المؤشرات التي تدل على هيمنة ضروب الخطاب الفلسفي على المفهوم، مقارنة بخطابات أخرى؛ على أن الخطاب الفلسفي لا يني يوجِّه تمفصلاته صوبَ المفهوم توجيهاً مباشراً ومن دون توسط: «إنه يلتف عليه بشراسة من أجل إنطاقه»، واستنطاقه وفحصه وإخضاعه لمحكي النقد والشكّ. ومن المرجح أن السبب في ذلك إنما يعود إلى العقل «الذي ربما أيضاً وفي سياق احتذائه بالعقل الأول، يَعتبر أن مسؤوليته الأولى والأخيرة تتمثل في تكميله، في تحيينه، وفي تجْليته». في حين يُراهِن الإبداع على إدراج المفهوم ضمن دائرة التجربة، إذ إن المفهوم لا يتوقف عن إبداء حاجته إلى غير قليل من الشَّطَط الشعري الذي من شأنه أن يفتحه على دلالاتٍ مغايرة: «إن الشعر خاصة، قد يتخذ من المفهوم أداة تعبيرية يتمكن خلالها من فتْح مسالك لا متوقعة في أرض المفاهيم، وفي أراضي الكتابة ككل، مسكوناً بمتعة تقليبها على مختلف وجوهها، من أجل ملء ما يتخللها من بياضات، أو من أجل تحويل وجهاتها الدلالية، كي تفرح بمصائر جديدة لم تكن حاضرة من قبل في ذاكرتها».

اللامتناهي ومآلات الحظر والمنع والتحريم لا ريب في أن خَوْض غمار إعمال النظر في سيرورات اللامتناهي إنما تحيل في المقام الأول على جماع «الأصوات الخفيضة التي تندرج ضمن الإيقاعات المركزية للكينونة»، غير أن هذه الأصوات ما انفكت تعاني ضمن سياقنا العربي الإسلامي من تهويل اللفظ من قِبل سائر الخطابات السائدة، ممّا أسفر عن الزج بها في غياهب المسكوت عنه واللامفكَّر فيه؛ إن الأمر شبيه إلى حد ما بحسب المومني «بقصة حي بن يقظان، حيث تعيش العامة حياتها منفصلةً تماماً عن المعقولات وأسيرة كليّة للمحسوسات. وهي الوضعية ذاتها المعيشة حالياً بالنسبة إلى إشكالية اللامتناهي في مرجعيته الإبداعية والفكرية، عربياً، بفعل خضوعه لسلطة الحظر التي تطال الجسد والروح».

ليس من شأن سيرورات الحظر التي تحيط بأصوات الكينونة الخفيضة سوى الإسهام في توسيع مسالك الوثوقية العقدية من جهة، وتكاثر الخطابات الظلامية المسيَّجة بالأسلاك الدوغمائية الشائكة من جهة أخرى؛ ونقصد جماع الخطابات المتخفية في حجاب متناه يبيح الثابت ويَحرم المتحول، مما يسفر عن تبديد خيوط اللامتناهي وتشتيت مداميكه. ومن هنا، مأتى الحاجة إلى الانفتاح على مساعي الإبداع، ذلك أن «الإبداع المختلف والمغاير هو الترجمة الفعلية للأصوات الخفيضة التي تتخلص من الوثوقية العمياء في تعاملها مع اللامتناهي، بحثاً عن تواصل حر ومنفتح على شعرية متوَّجة بقراءة ذاتيتها. إن الأمر هنا يتعلق بكتمان يشبه الجهر، كتمان يتمتع بجمالية تلكُّئه التي لا تني تجدِّد رؤيتها لهوية الطريق، للوسائل كما للغايات، عبر مراوحة فرحة ومكابدة، بين نزوة الشك وحتمية اليقين».

الحداثة وأطياف اللامتناهي

أبانت الحداثة وما بعدها عن عجز ووهْن صارخَيْن في أثناء محاولتها دَرء اللامتناهي، على الرغم من سعيها الحثيث إلى «توظيف الكائن في عملية بَنْيَنَتِها لذاتها وبلْورتها لإواليّاتها، عبر إغراقه في حمأة الاستهلاك العنيف للعابر والمتناهي»، ذلك أن أطياف اللامتناهي المتعددة تحيط بها من كل حدب وصوب. لذا أنكبت الحداثة وما بعدها على مباشرة مناوراتها القاضية «بتحجيب اللامتناهي، على حساب تكريس سلطة العابر فقط، وتكريس جمالية المؤقّت والمتلاشي، وإشاعة ثقافة المحو بالمعنى المُبتذَل والمجّاني للكلمة». مناورات تستند إلى منهجية «تستمد قوَّتها الإجرائية من تفجير الأسئلة المغلوطة التي تستفيد منها الحداثة الهمجية في تعميم الروح الإلكترونية التي تفتح المجال لِلامتناهٍ تقنوي يقع الآن خارج اهتمام هذه المقاربة بفعل ما يطرحه من إشكالات ليس هنا مجالها».

لا تخلو خطابات الإنسان المبكرة من ضروب التهجس بمسالك اللامتناهي، فسؤال «اللامتناهي قديم قدم دهشة الكائن أمام الظواهر الطبيعية بتعدُّد مستوياتها وإيقاعاتها». وهو الأمر الذي تفصح عنه سائر النصوص التأسيسيّة التي ظلَّت عالقة في ذاكرة الثقافات الكونية والإنسانية؛ ولاسيما أنّ اللامتناهي على حد تعبير المومني «يخص تلك الخطابات المنفتحة على مُحتملها. كما يخص الخطابات المنذورة باستمرار لفهْمِ حقائق الوجود، والتي ينسخ بعضها البعض الآخر دونما انقطاع».

لا تتوقف تلك الجاذبية التي تمارسها قضايا اللامتناهي (القضاء والقدر، الأسماء والصفات، البعث والعدم...إلخ) عن ضخ روح جديدة في الإشكالات المترتبة عنها، ونقصد «استمرارية البحث فيها بكل اللغات وبكل المنهجيات وفي كل العقائد دونما استثناء». ومرد ذلك إلى «كون تقمُّص صوت اللامتناهي هو أقصى ما يطمح الإبداع إلى تجسيده قديماً وحديثاً، بغاية ملء الفراغات والتقاطعات التي تطال إرادة الفهم والتمثُّل البشري. ومن المؤكد أن تفاقُم الاتجاهات الداخلية لدى الكائن هي ردود أفعال طبيعية على تراكم الفراغات والبياضات التي يستشعرها جراء تمنُّع اللامتناهي عن الفهم والتأويل».

هكذا آثر الشاعر الأنيق رشيد المومني أن يسافر بنا عبر مصنّفه الجديد - من دون الالتزام بخطيّة زمنية - إلى بطون النصوص التأسيسية، على مستوى الفلسفة والتصوُّف والرواية والشعر والتشكيل قصد الاغتراف من مشاربها المتشعبة التي ما برحت تولي مفهوم اللامتناهي المكانة الرفيعة، إذ يُراوح بنا المشي ذهاباً وإياباً بين غابات سرديّة وشعرية وفكرية كثيفة تجمع بين أمبادوقليس وفيتاغورس والفيثاغورية وأفلاطون والأفلاطونية، وأرسطو، وابن طفيل، وشهاب الدين السهروردي، والحلاج، وابن الفارض، وإخوان الصفا، والنفري، وابن رشيق، وغاليليو، وكوبر نيكوس، وهوسرل، وهايدغر، وهولدرلين، وإدوارد مونش، وكولردج، وبودلير، ورامبو، ومالارميه، ولوتريامون...إلخ.

الزج في أتون الإشكالات الفلسفية

منذ صدور مجموعته الشعرية الأولى: «حينما يورق الجسد» (1973) وصولاً إلى مجموعته الأخيرة: «من أي شيء» (2022)، مروراً بمجاميع شعرية وتشكيلية متعددة، لا يتوقف رشيد المومني عن الزج بمنجزه الشعري والنقدي على السواء في أتون الإشكالات الفلسفية والميتافيزيقية الكبرى وما يرافقها من أبعاد تأويلية وتفكيكية تراهن على اقتفاء الآثار المفتوحة. ذلك أن معايشة تجربة الكتابة الشعرية على حد تعبير المومني «لا تختلف في شيء عن تجربة/ تجارب تفاعل الكائن مع أزمنته المتعددة والمكتظة حول حركية المواقع الرمزية التي تتبادل إقامته، حيث يُمكن ملاحظة حضور التعدد اللانهائي لإستراتيجيات التأقلم والتكيف، البناء والهدم، التي تلقي بظلالها الثقيلة أو الخفيفة على سيرورته، وأحياناً على تيهه، وهو يجوب رحابات كينونته. إن التفاصيل المركزية والثانوية لهذه الإستراتيجيات تكون موجهة بمساراتها التركيبية التي تنتظم في قلبها حركية الذات بمختلف أشكال حضورها ومستوياته، وهو ما يَضعنا بشكل مباشر في عُمق الخطابات الفلسفية الكبرى التي حاولت وتحاول فهم شبكة الأبعاد/ الدلالات التي يكابر الكائن من أجل وضع خطاطات مُحتملة لها. فعلى الرغم من اعترافنا بمُحايثة هذه الإستراتيجيات/ الخطابات لكتابة النص الشعري، إلا أنها وضمن المسار التأمُّلي المُشار إليه، تظل مخترَقة بالرؤية الشعرية التي يُمكن تحديدها أو توصيفها بالضوء الذي تهتدي به الكتابة في تفقدها لمساراتها الغامضة، بما تعنيه هذه الكتابة من حضور وازن لسلطة الفكري والتقني والجمالي والتي ستظل من دونها حبيسة مراوحات ضيقة وعمياء، في قلب مسارات مسدودة، وعارية من أي حضور محتمل».

الخطابات الجاهزة

ولعلّ ما يُميِّز زاوية النظر التي ينبجس منها موقف المومني، هو كونها تتمأسَس على اعتقادٍ متين مفاده أنّ الكتابة الشعريّة غير منفصلة عن الزمان والمكان الذي تمخَّضت فيهما، على أنّ هذَيْن المكوّنَيْن وما يتضمّنانه من إشكالاتٍ متحوّلة مبدعة، هو ما يبثّ في الكتابة الشعريّة تلك الروح الحيويّة التي تبعث الحياة في إيقاعات اللّغة وتُنعش مساراتها التأمّليّة؛ إنّه انفصال سيظلّ مُرجَأً، بل يكاد يظلّ مستحيلاً ما دامت الرؤية الشعريّة الحقيقيّة تتشبّث بإواليّات فلسفات التفكيك والتأويليّات، وهذا ما ينبّهنا إليه رشيد المومني في سائر مصنّفاته التأمّليّة التي لا تني تتسَرّب إلى الخطابات الفلسفيّة الحديثة كي تندمج في حواراتٍ عميقة مع الظواهر الإبداعيّة، ومن ثمّ تلمُّس خيوطها المتشابكة والمُلتبسة بالأسئلة الفكريّة الحضاريّة ونخصّ بالذكر منها أسئلة: الوجود/ الكتابة/ الآخر/ الحداثة/ الكينونة ...إلخ. فالمسألة تتعلّق برهانٍ "يتعذّر تحقيقه إلّا عبر توخّي اختراق الرؤية الشعريّة لواجهة الخطابات الجاهزة المسكوكة، بحثاً عن التفاصيل المَنسيّة، وتلك اللّامفكَّر فيها لهذه الخطابات كصيغةٍ من صيَغِ هدْمِ رتابة القول وتفكيك تكرار المسكوك، أي أنّ الأمر يتعلّق بعمق الاشتغال في قلب المرجعيّات المُحتجبة والمُتخفّية، بما يؤكّد التعقيدات الموازية لمهمّة قراءة النصّ الشعري التي لا تخلو من المزالق المتربّصة بخطواتها. ذلك أنّ جملةً شعريّةً واحدة قد تكون موضوعَ تفاعلِ مرجعيّاتٍ متعدّدة، لا تغفلها عين القراءات الخبيرة بمواقع منازل السؤال. ذلك أنّ ما يُقال في تضاعيف خطاباتٍ فلسفيّة عدّة أو سوسيولوجيّة حتّى، يحدث أن يُقال في شذراتٍ شعريّة جدّ معدودة. بما يدعونا للقول إنّ الشذرات ذاتها قد تحتاج في قراءتها لنظريّاتٍ وأنساقٍ فكريّة عدّة باعتبار أنّ القصيدة تتميّز بمفارقاتها العميقة الغور. وهذا الغور هو نتاج ذلك التراكُم المتعدّد والمُتتالي للعناصر، للمرجعيّات، وللخطابات؛ إنّها الحرارة المنبعثة من قلب تلك الصفات الدلاليّة المُحتجبة خلف الخفّة. وهو ما يضفي على الشعر عموماً تلك الخصوصيّة الرمزيّة والعالية التي يتفرّد بها بين باقي نماذج القول وأنماطه. وهو ما يفسِّر أيضاً، ضحالة وفقر حصّة كبيرة من القراءات التي تدّعي لنفسها القدرة على اجتراح هذه المواقع".

* باحث من المغرب

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.