ومن هذا التجاذب تنتج فكرة وسطية توليفية تجمع بين أفضل ما في الطرفين، متجاوزةً مستويهما إلى مستوى أعلى. ومع الوقت، تبدأ الفكرة الجديدة بالتطرف، فيظهر لها نقيض، وهكذا تستمر العملية دواليك وتستمر مسيرة الفكر في التطور والترقي.
لكن في تاريخ اليمن الاجتماعي والسياسي، لم تتحقق هذه النظرية بشكلها المعتاد. فالجماعة السلالية التي دخلت اليمن منذ أكثر من ألف عام تحكم البلاد بطريقة طائفية وعنصرية - كلما سنحت لها الفرصة - مستعلية على السكان الأصليين اليمنيين. وقد صوّرت نفسها كطبقة أرفع منزلة من الشعب اليمني، وارتكبت العديد من الإساءات بحقهم، ماضيًا وحاضرًا. وعلى الرغم مما يمتاز به اليمن من مجد وتاريخ عريق، فإن كتب هذه السلالة غالبًا ما شوّهت تاريخ اليمنيين ودينهم وأخلاقهم، وتكرّر السلالة نفسها بنفس طريقة الحكم المتخلفة التي تعتقد أن حكمها لا يستمر إلا على شعب متخلف يصارع المرض والجوع والجهل، وعلى حروب دائمة كجزء من ثقافتهم وثأرهم المستمر من كل بريء يقع تحت حكمهم.
والحاصل أنه على مدى ألف عام، لم يظهر فكر مضاد لتطرف هذه السلالة. فكلما سقط حكمهم، عاد اليمنيون بطبيعتهم لحكم بلادهم دون أي نزعة مضادة تُبرز هوية قومية يمنية تواجه الفكر السلالي بنفس ثقافته.
وربما لو حدث ذلك التطرف المضاد في فترة ما، لكان بالإمكان تجاوز هذا الفكر السلالي المتكرر وفق القاعدة الهيجلية، ولخرجنا من هذا المأزق والحلقة المغلقة.
هذا لا يعني أن التطرف بأي شكل من أشكاله هو شيء إيجابي أو محمود أو أننا ندعو له بأي حال من الأحوال، فالعالم قد تجاوز الأفكار العنصرية، ولم تعد الدول القومية منسجمة مع حال العالم اليوم، لكنه قد يكون ضرورة تاريخية ديالكتيكية.
فمواجهة الفكر السلالي بفكر قومي يمني مناقض لفكرهم المتخلف المتكرر قد يكون ضرورة لا مفر منها لمعالجة المشكلة من جذورها.
وهذا أيضًا يعني أن مشروع الأقيال أو القومية اليمنية الناشئة اليوم ليس مشروعًا مماثلًا للمشروع السلالي، فالمشروع السلالي أوغل في دماء ومعيشة اليمنيين، بينما المشروع القومي لا يزال مجرد صرخة أطلقها بعض اليمنيين تحت سياط وسيوف السلالة، ولم يقم إلى اليوم بأي عمل مضاد على الواقع، لكنه بدأ - مثل كل مشروع - بفكرة وثقافة تتزايد بشكل متسارع لا يمكن تجاهله، وله ما بعده لا محالة.
من هنا، يمكن فهم أن مشروع الأقيال ليس دعوة للعنصرية بقدر ما هو رد فعل ضروري لمواجهة التطرف السلالي. وإذا تحقق هذا المشروع، فسيكون بمثابة الخطوة الأولى في التطور الديالكتيكي، مما قد يؤدي في النهاية إلى ظهور فكرة وسطية متوازنة تنبذ كل أشكال العنصرية وتمهد الطريق لدولة مدنية، ولكن هذه المرة في بيئة تمنع ظهور الفكر السلالي الخبيث مرة أخرى.
لذلك، فإن مشروع الأقيال ضرورة حتمية، ليس كهدف في ذاته، بل كوسيلة لتصحيح مسار التاريخ ومنع السلالة من الاستمرار في تسللها إلى الحكم جيلًا بعد جيل.