الأول: أن العلمانية نظام قانوني محايد وظيفته الفصل بين الدين والدولة، أو فك الاشتباك والتداخل بين الديني والزمني.
المنظور الثاني: أن العلمانية مذهب فكري فلسفي يسعى لتفكيك الدين على نحو منهجي ومتلاحق.
ولذلك يظل من الصعب الاطمئنان إلى مصطلح وتعريف محدد ومحايد للعلمانية، وبخاصة إذا ما نظرنا للعلمانية من زوايا مختلفة، فالفلاسفة ينظرون لها من زاوية فلسفية، وعلماء الاجتماع يقرؤونها بأبعادها الاجتماعية ، والسياسيون ينظرون لها من خلال ثنائية الديني والسياسي، مما يحيل العلمانية إلى حالة من الغموض والاضطراب والالتباس والإبهام.
وإن كان من الخطأ المنهجي قراءة العلمانية في الفضاء الغربي من خلال تلك الزوايا والأبعاد المختلفة والمتضاربة، إلا أن علينا أن نفرق بين منظورين للعلمانية وهما العلمانية اللادينية التي تهمش الدين، والعلمانية البرجماتية التي يتعايش فيها الديني مع الزمني.
وإذا كانت العلمانية ظاهرة غربية، فإن الغرب خضع لعلمنة كاملة، ولكن هذا لا يعني اختفاء الحضور الديني من الغرب، وهذا ما نلحظه في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأمريكا الجنوبية، وهذا يعود إلى أن الإنسان الغربي يجد في الدين نوعًا من الحماية من موجات التفكك المخيفة، ونزعاه القلق النفسي المفجعة، ومخاطر التمزق المدمر، حيث يلجأ الى الدين كمخزون قيمي وثقافي.
فالعلمانية كثمرة للتحولات التاريخية الغربية، تقوم على أساس نظري وفكري يدخل في مجال الأيديولوجيا والنظرة الكونية الشاملة، قد توقع الإنسان في تبني فكر مختلف عن فكره، ومقتضيات حياته الخاصة وحاجات ضميره وموضوعات بيئته، فالمنطق السائد بحيادية العلمانية ليس صحيحًا، فالعلمانية لا تقف عند حد تسيير الحياة المادية فحسب ولكنها موجهة إلى محاولة تفسير العالم الطبيعي، ونزع القداسة عن العالم، وتحويله إلى مجرد معادلات قابلة للتوظيف من قبل الإنسان الحديث، وتحويل القيم الأخلاقية والتصورات الإدراكية الى مجرد خيارات فردية، فهي كما يقول المفكر الاجتماعي الألماني ماكس فيبر، تسعى لتهميش الحضور الديني، وتغييبه وتفكيك ما تبقى منه، فالعصر الحديث، من وجهة نظر فيبر، عصر علماني، تتراجع فيه المسلمات الروحية والأخلاقية، والقيم الإنسانية أمام العالم الدنيوي وتحدث خلخلة في الوعي الديني، وتحيل الإنسان الحديث على حد رأي فيبر، إلى حقل الجمال والمتع الحسية الدنيوية، وإطلاق المتعة الفردية الحسية - على الصورة التي دعا إليها الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام - لسد فراغه الروحي وترميم دواخله النفسية المنهكة، بديلًا عن الطاقة الروحية.
وإن كانت تكتنف قراءة ماكس فيبر بعدًا يساريًا وبصمات ماركسية، وبخاصة قراءته للأديان، حيث يمتح أفكاره من مدرسة ماركس ونيتشه، وكانط، فأطروحاته متأثرة بالنزعة العدمية الإلحادية والتي أعاد بناؤها في قالب فكري فلسفي يبدو وكأنه نسق فلسفي جديد، قد توقع المتلقي في تبني فكر مختلف عن فكره من غير أن يعلم. فالأفكار اليوم موجهة ليس إلى التكنولوجيا والحياة المادية فقط، ولكنها موجهة إلى تفسير الكون، وعندها تصير الحيرة الفكرية هدفًا، ويصير عدم اليقين هو النتيجة، وفي هذه الحالة يكون التلقي الناقد ضروريًا.
وهذا يفضي بنا إلى فحص الأمانة الفكرية التي لم يتحلَّ بها بعض قادة الفكر والفلسفة، حيث يعاني الخطاب العلماني من إشكالات رئيسية تتعلق بالواقع، أولى هذه الإشكالات الاعتقاد بامتلاك الحقيقة، والتعامل مع الحقائق الإيمانية بمعنى سلبي يعكس صورة العيش خارج إطار هذا العصر.
لا شك يوجد اليوم أشخاص أمثال نيتشه وسارتر وهايدجر وألبير كامي لا يجدون غضاضة في التعايش مع حالة الفراغ العدمي المروع، وما يصحب ذلك من قلق وزلزلة في الضمير، ولكن ليس بمقدور المجتمعات الإنسانية احتمال مثل هذا الفراغ الخطير، وتحمل التكلفة الباهظة لهذه الحالة الإلحادية والعدمية، ولعل هذا ما دفع كثيرًا بالمجتمعات في العالم إلى إعادة اكتشاف المقدس والنهل من معين المنابع الروحية.
إن من الأخطاء الفادحة قراءة المجتمعات من واقع ما يكتبه بعض علماء الاجتماع والفلاسفة وأصحاب المذاهب الفكرية، فهذه القراءات تناقض حركة الواقع، فمن غير الدقيق اعتبار الغرب علمانيًا كاملًا فإنه من غير الصحيح تصنيفه مسيحيًا شموليًا بل يجب قراءته من هذين الوجهين معًا.
ولكن لابد أن يكون لنا في الزمان النسبي، من ثوابت نركن إليها، وكل شخص لا يجد في مخزونه هذه الثوابت، يجب عليه أن يراجع موقفه الفكري والأخلاقي.