الردّ الذي بدأه "حزب إيران" اللبناني قد يتواصل الى أن يعلن انتهاء ثأره، وأظهرت الغارات الاستباقية وحجم الردّ على الردّ مدى استعدادات إسرائيل، وكذلك سرعة التفاعل الأميركي في توقيت ليلي متأخر. في المقابل، لا يزال مفترضاً أن إيران نفسها ستردّ على اغتيال إسماعيل هنيّة زعيم "حماس" وهو في ضيافة "الحرس الثوري"، وقد يكون حان وقت الردّ أخيراً بعدما اعتُبر تأخره "جزءاً من العقاب لإسرائيل". لكن كلّ الردود تُدرس وفقاً لقاعدة تجنّب اشعال حرب موسّعة، وهي لن تعطّل المفاوضات التي تريدها الأطراف جميعاً، بما فيها إيران وإسرائيل. الأولى لأنها ترى "انتصاراً" في وقف اطلاق النار في غزّة يمنع إسرائيل من تحقيق الأهداف التي حدّدتها للحرب، والثانية لأنها أنجزت معظم ما أرادته تقتيلاً وتدميراً وتجويعاً، أما الشروط التي حدّدها نتنياهو واستخدمها لتأخير وإفشال أي اتفاق فتتلخّص في الهدف الرئيسي: تثبيت الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزّة... وإذا لم ينتزعه الآن من بايدن فإنه على دونالد ترامب الذي أيّد قبل أيام فكرة "توسيع مساحة إسرائيل".
جولة وراء جولة، منذ مطلع السنة، مع فترات انقطاع، انتقلت مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى من تسويف الى فشل. قيل أن واشنطن أمهلت إسرائيل الى آخر العام الماضي لإنهاء الحرب، ثم مدّدتها "بضعة أسابيع"، وبعدها لم تعد تشير الى مهل. رأت أن تنتظر معركة خان يونس لتعيد اطلاق المفاوضات، ثم دخلت في جدل بعضه علني مع إسرائيل حول اجتياح رفح الذي قالت إن لا بدّ منه لـ "القضاء على حماس"، و"العثور على الرهائن واستعادتهم"، وهما هدفان ثابتان متفق عليهما مع جو بايدن وادارته. في الاثناء كانت اسرائيل أقامت ممر نتساريم الفاصل بين شمال قطاع غزّة وجنوبه، وخلال تقدمها الى رفح سيطرت على محور فيلادلفيا/ صلاح الدين المتاخم للحدود المصرية مع غزّة وتعمّدت تدمير منشآت معبر رفح. وبذلك زرعت عُقدتين تحولان دون أي اتفاق تفاوضي، وإذا استطاعت فرضهما فإنها ستحصل على بداية "شرعنة" لاحتلال قطاع غزّة.
منتصف حزيران (يونيو) بدأ الجيش الإسرائيلي يطلق إشارات إعلامية بأنه أنجز ما يمكن أن يقوم به وأنه لا يؤيّد سيطرة دائمة على القطاع، بل يريد الانتقال الى الشمال لتصفية الحساب مع "حزب إيران" في جنوب لبنان. أي أنه رمى الكرة الى ملعب المستوى السياسي كي يحدّد وجهة المرحلة التالية. وعندما استنتج الجيش أن الحكومة تتلكأ راح يبثّ ما حققه في مجال إضعاف "حماس" وغيرها من الفصائل، وصولاً الى القول إن "حماس فكرة، ولأنها كذلك لا يمكن القضاء عليها". وبعده تبنّت الإدارة الأميركية هذا التقويم لتبني عليه مساعي لاستئناف التفاوض على هدنة، وكانت طلبت مقابل سكوتها عن اجتياح رفح أن يقترح بنيامين نتنياهو خطة لوقف إطلاق النار، وهي التي اعتمدها بايدن بنهاية أيار (مايو) وتبنّاها مجلس الأمن في العاشر من حزيران (القرار 2735)، ووافقت عليها "حماس" في 2 تموز (يوليو) لكن التفاوض حولها تأخر الى 15 آب (أغسطس) بمقترح جديد قدمه الوفد الأميركي متبنّياً تعديلات كانت طلبها نتنياهو مستنداً الى أن موافقة "حماس" تعني أنها تنازلت عن طلبها الإقرار المسبق بإنهاء الحرب وقبلت أن يخضع للتفاوض خلال الأسابيع الست للمرحلة الأولى من الاتفاق.
ما الذي تغيّر؟ الظاهر في الاعلام يوحي بأن الصيغة الأولى "المقبولة" لعقدتَي محور فيلادلفيا ومحور نتساريم في "مقترح بايدن" لم تعد هي نفسها في المقترح الجديد الذي قدّم في الدوحة ووُصف بأنه "يسدّ الفجوات". الواقع أن اللحظة الانتخابية الدقيقة أعادت إدارة بايدن و"وساطتها" الى ثوابت السياسة الاميركية التقليدية، فالقول عندها ما تقوله إسرائيل، خصوصاً أن الطرف الآخر فصائل إيرانية. هل أدركت واشنطن الأهداف بعيدة المدى لشروط نتنياهو، وهل أقنعتها حججه لعدم إنهاء الحرب وعدم الانسحاب من المحورين فوافقت عليها وقرّرت دعمها؟ إذاً فهي أقرّت لإسرائيل بأن "احتلال قطاع غزّة" مسألة مبرّرة "أمنياً"، بل اختارت اللحظة الأكثر حساسيةً وسوءاً لتمرير هذا الاعتراف، إن لم يكن عن اقتناع فهو يشكل مزايدة مكشوفة على ترامب. وهكذا يكون نتنياهو قد نجح في استدراجها الى هدفه- الاحتلال- الذي دأب على الإفصاح عنه سواء في تصريحاته وخطبه، أو في "الخطّة" التي اقترحها لـ اليوم التالي" بعد إلحاح واشنطن، أو في صمته وعدم نفيه ما يصرّح به حليفاه سموتريتش وبن غفير. ذاك أن "طوفان الأقصى" أحيا الخطط العسكرية التي وُضعت في المرحلة السابقة واللاحقة للانسحاب من غزّة عام 2005.
لكن محادثات شهور طويلة مع القاهرة أكدت للإسرائيليين، سياسيين وعسكريين، أن مصر لن توافق على وجود اسرائيلي محور فيلادلفيا لأنه يخالف أولاً اتفاقات ثنائية، ويشكّل ثانياً بداية إضفاء "شرعية عربية" لاحتلال قطاع غزّة، ويُفترض أن هذا مرفوض دولياً وليس عربياً فحسب. ثم أن المفاوضات كشفت ارتباطاً استراتيجياً بين محوري فيلادلفيا ونتساريم، ويبدو أن واشنطن تعرض في مقترحها المعدّل الأخير انسحاباً جزئياً في الأول وشكلياً من الآخر لنيل موافقة صعبة من القاهرة و"حماس"، لكن عليها أن تحصل أيضاّ على موافقة نتنياهو!
* ينشر بالتزامن مع موقع "النهار العربي"