تأخذنا الحياة الاجتماعية في سياق الحياة المادية إلى مناطق متنوعة التضاريس سريعة التغيير متقلبة الأجواء، وتضعنا أمام الواقع الاجتماعي الذي يخلق إيقاعه الخاص وفق ما تمليه مستجدات الحياة ومجالاتها المختلفة، ما يجعل بعض الكتاب والمبدعين في حالة من التفكر المستمر بين الاستسلام للفروض الاجتماعية ومسؤولياتها اليومية وبين الانكباب على الكتابة والقراءة والإنتاج العلمي والأدبي.

بشكل أو بآخر تؤثر تلك الفروض على حياة الكاتب وطريقة تعايشه معها، وقد تكبل وقته وقدرته الإنتاجية في الكتابة والتأليف، واختطافه من بين أوراقه وكتبه، ما يقلل من دوره وتأثيره في الحياة الثقافية والأدبية ولا أقول خسارته كليًا.

في هذه اللحظة تظهر الموهبة لتبرهن على الملكة الحقيقية التي يمتلكها الكاتب وتعكس قوتها الفنية وتفوقها على الظروف إن لم تروضها إلى صالح الكاتب ولا تقف عند معوقات قد تشلُّ حركتها بل تستثمر تلك المعوقات وتتحول إلى لحظات إبداعية ولا ريب، «ولعل أشد ما نحتاج إليه للنجاح هو الموهبة وإذا أردنا أن ننعم براحة البال فلا بد من أن نضمن سيطرة بارعة على مواهبنا» بحسب آلان دو بوتون.

سيكون من المفيد الاستشهاد بنموذجين كبيرين في حركة الأدب العربي والعالمي على حد سواء، لم يستسلما لضغوط الحياة وتقلباتها المختلفة بل استثمار كامل لحظاتها في الكتابة والإنتاج العلمي والأدبي مع الفارق الكبير بين هذين النموذجين.

يحضر الشاعر الراحل محمود درويش في حركة الأدب العالمي كواحد من أولئك الموهوبين في تخصصه «الشعر» الذي ترجمت دواوينه إلى مختلف لغات العالم وكُتبت عنه جملة من الدراسات العلمية وحظي بشهرة كبيرة بين شعراء العالم الكبار حتى أصبح الشاعر العربي الأشهر في حركة الشعر الحديث.

انسلخ درويش من حياته الاجتماعية والعاطفية، ولم يك ليرتبط بزواجين سريعين إلا وكان الأسرع في فك الارتباط والتشبث بموهبته الإبداعية وقضيته الإنسانية الخالصة، ما جعل زوجته الأولى رنا قباني مثلا تؤكد أن محمود «شاعر ناجح وزوج فاشل»، ولم تخل حياة درويش من وجود ملهمات يستعين بها على كتابة القصيدة وسرعان ما يتخلى هو نفسه عن تلك العلاقة ويقول: «يحزنني عدم قدرتي على ترتيب علاقاتي بالطريقة التي أتمناها ويمكن أن أتخلى بسهولة عن أشخاص رائعين أحبهم فقط لأنني غير قادر على الاحتفاظ بهم أو الاستمرار معهم». حتى في علاقته بأسرته لم تكن على تواصل دائم، فقد كان يعيش بعيدًا عنهم لظروف كثيرة لا تخفى على قرائه ولم تسنح له الفرصة ليكون قريبًا من أمه وأبيه يرعاهما ويقوم على خدمتهما لكنه خلّدهما في شعره «أحن إلى خبز أمي» و«غَضَّ طرفًا عن القمرْ»، وقد أخلص درويش لموهبته وتفرغ تمامًا إلى الشعر ووضع حدًا واضحًا لحياته الاجتماعية وعلاقاته بالآخرين.

في الجهة المقابلة يحضر شاعر آخر هو غازي القصيبي وصاحب المواهب المتعددة الذي ترك أثرًا كبيرًا في حركة الأدب الحديث وأصدر الكثير من الكتب في فنون أدبية مختلفة وحظي بشهرة لا تقل عن شهرة درويش وإنْ اختلفت التجارب والمشارب.

لم ينسلخ غازي من واقعه الاجتماعي وحياته العاطفية، فقد كان متزوجًا وأنجب البنين والبنات وعاش حياته الأسرية بكامل مسؤولياتها حتى وجد نفسه مثلًا متذمرًا ممن يحرمه تناول الغداء مع أسرته؛ فيقول: «كم كنت أمقت أية دعوة على الغداء تحرمني شمل العائلة ورؤية الأولاد»، ويقول في لقاء إعلامي ردًا على سؤال عن عدم إجابته الدعوة لكل المناسبات المختلفة التي يدعا إليها فأجاب: «ليس لدي استعداد دائم لأن أضيّع كل يوم أربع أو خمس ساعات من وقتي في مثل هذه الأمور». ويحذر القصيبي كل الحذر من ضياع الوقت ويحفظ كل ثانية تمر في يومه ويصطفي لنفسه محررًا خاصًا يملي عليه القصيبي أفكاره ولحظاته الإبداعية ويدونها كل يوم ويخصص غازي لها وقتًا لمراجعة تلك الأفكار التي تنتهي غالبًا بين دفتي كتاب.

هكذا إذًا يتعامل المبدع الحقيقي مع واقع الحياة وفروضها الاجتماعية - كل بحسب ظروفه بالطبع وتقديره لها -، لكنه لا يتخلى عن موهبته ولا يسمح للآخرين بالتأثير عليها أو طمسها؛ فالموهبة الأصيلة والإدارة الحسنة للنفس سببان كافيان لتحقيق النجاح والإبداع وتخليده في ذاكرة البشرية بعيد النظر عن كل المحبطات والمبررات التي يستسلم لها البعض وتقضي على مواهبهم في نهاية الأمر.