في إطار البحث عن جذور ونشأة الفلسفة لا بد من الوقوف أولا عند اشتقاق كلمة «فلسفة» من أين أتت؟ خصوصا وهي موجودة بنفس اللفظ تقريبا في جميع اللغات، فهي فلسفة في العربية، وPhilosophy في الإنجليزية، Filosofia في الإسباني و Philosophi في الفرنسية.

إذن من أين جاءت كلمة فلسفة؟

الإجابة عن هذا السؤال من داخل قيود الإطار الفكري السائد ليست صعبة وشبه بديهية، فتيار مؤرخي الفلسفة المعاصرين في عشرات المصادر ومئات المراجع يكررون ويؤكدون دون أي تردُد أنها كلمة يونانية تعني: حب الحكمة، وهي مكونة من مقطعين فيلو: حب، وسوفيا: حكمة.

ولكن إذا أرجعنا البصر كرتين، متحررين من سطوة ألقاب أرباب هذا الإطار الفكري فسوف تبدو هذه الإجابة ناقصة ومبتورة، وبشهادة تستغرب من عدم الالتفات لها من قبل جمهور مؤرخي الفلسفة، وهي شهادة شيخ فلاسفة اليونان أفلاطون بنفسه إذ يقول في محاورة كراتيلوس، التي أجراها على لسان أستاذه سقراط، في حوار مع كراتيلوس وهيرموجينيس عندما سُئِلَ عن كلمة سوفيا

قال: (كلمة «سوفيا/ حكمة» غامضة جدا، وتبدو أنها ليست من أصل محلي)، وأشار أفلاطون إلى أن الكلمة أتت من (البرابرة).

إذن فالكلمة وإن أخذتها جميع اللغات التي ذكرنا من اليونانية إلا أن اليونانية أخذتها من حضارة أخرى وأصولها بحسب أفلاطون ليست محلية «وغامضة جدا» حد وصفه.

هناك آراء قليلة وثمينة لبعض المفكرين برغم أنهم لم يتطرقوا لهذه المسألة إلا في سياق نقاشهم لموضوعات أخرى أو موضوعات أشمل، وتطرقوا للمسألة هذه فقط في بضعة أسطر مثل جورج طرابيشي في كتابه نظرية العقل، الذي يرى أن أصل الكلمة بابلي، وأن البابليين كانوا يقولون للحكيم الشافي (Ashipou)، ويقول إن الحكماء = الأطباء البابليين كانوا يستقدمون إلى بلاطات الملوك في أنحاء المعمورة لما يحظون به من شهرة وتقدم في العلم، وهذا قد يكون سبب انتشار اسم (الشافي) ثم إنَّ سفر القضاة (الحكماء) في التوراة يعرف باسم «شوفتيم»، وأيضا كان يقال للحكام = الحكماء في قرطاج «شفاة»، و يعتقد أن كلمة الشافي هي التي دخلت اليونانية على شكل «sophos» ثم عادت للعربية على شكل «الصوفي».

أما المؤرخ الأمريكي مارتن برنال المتوفى في 2013 فيرى في كتابه أثيناء السوداء أن كلمة «سوفيا» مشتقة من كلمة مصرية «SB3» بمعنى يعلم/ تعليم، وإذا عرفنا أن الحرف المصري القديم «B» يُقلب أحيانا في اليونانية ليصبح «ph» لأدركنا أن الأصل اللغوي للكلمة اليونانية يتطابق تماما مع «Sophia».

إن محاولات تعقب كلمة (سوفيا /الحكمة) التي أرجعها جورج طرابيشي لكلمة «الشافي» البابلية، أو محاولة مارتن التي يرى أن أصل الكلمة مصري بمعنى«يتعلم» قد يكون أحد الرأيَين هو الصحيح وقد يكون هناك أصل جامع للكلمتين انحدرتا منه، وقد تكون الكلمتان هما طرف خيط يقود إلى الإجابة الصحيحة.

وهاتان المحاولتان وإن كانتا مختصرتين، وذُكرتا على هامش حديث في موضوعات أخرى إلا أنهما تفتحان الأبواب لدراسة أصل هذا المصطلح دراسة مستفيضة، تحيط بالمسألة من جميع جوانبها، وتخلص إلى نتيجة نهائية، ثم إنَّ هذه المحاولات تفتح أيضا شهية الباحثين وعشاق الحقيقة غير المعلبة، وتثير الفضول المعرفي لديهم، وهي كذلك دعوة لطلاب الشهادات العليا لبحث موضوع تأسيسي ومهم وغامض تعصّى كشفه على أفلاطون وظل إلى اليوم غامضا ومُهملا، وإذا وُفِّق أحد الباحثين في كشف هذا الغموض - وهو أمر ممكن في ظل المعطيات والإمكانيات الحالية - فسوف يقدم خدمة كبيرة للحقيقة والمعرفة، ويحقق إنجازا كبيرا للعلم وله شخصيا.