كل ما أشرنا له في الحلقة الأولى من المقال تراكم عبر (التاريخ الإسلامي) مما يقتضي احتساب (رجل الدين) باعتباره أحد أشكال (رجال السياسة) بينما (رجل العلم) يختلف جذرياً عن (رجل السياسة الدينية) فعلينا أن ننظر لهما باختصار من خلال أطروحة ماكس فيبر في كتابه (رجل العلم ورجل السياسة) والاختلافات الجذرية بينهما، وهذا التفريق ليس من العلمانية التي يمتعض منها البعض، فقد سبق له القاضي عبدالرحمن بن خلدون (ت 808هـ) في مقدمته راجع الفصل الثاني والأربعين بعنوان (في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها).

لن أطرح في مقال عابر تلك الفروقات التي أشار لها ابن خلدون وفق معطيات زمنه، واستفاض فيها ماكس فيبر وفق تراكم الحضارة الإنسانية الذي أدركه، لكنها قطعاً تفسر صعوبة (التجديد في الفكر الديني) على (رجال السياسة الدينية) لأنهم في الحقيقة لا يستطيعون استخدام أدوات (رجل العلم) حتى ولو عرفوها ودرسوها منذ نعومة أظفارهم (وفق شكلها الكلاسيكي) منذ (نحن رجال وهم رجال.... الخ) من أقوال تراثية تدعو إلى (الاستقلال الفكري) يؤكده مثلاً انشغال ابن قدامة بالمقدمة المنطقية/الأرسطية في (أصول الفقه/روضة الناظر وجنة المناظر) مما يؤكد أن (رجل العلم) آنذاك استخدم آخر أدوات المعرفة العلمية في زمنه، وقد يستنكرها السابقون له من (السلف الأول)، وأمثاله كثير في فترات الازدهار الحضاري، لنجد في زمننا هذا القلق الكبير الذي يعيشه (رجل الدين) في استخدام أدوات (رجل العلم الحديث) في التجديد الديني خوفاً على حساباته السياسية ومكاسبه الجماهيرية مع (الرأي العام).

ولهذا فمن الطبيعي أن يخرج التجديد الديني (الفاعل) من خارج المؤسسات الدينية، فالمجال التداولي (مثلاً) لأطروحات (محمد شحرور/أكاديمي هندسة مدنية) تجاوزت في أثرها (التجديدي) ما حاولته مؤسسات دينية في مؤتمراتها (السياسية)، ويبقى الاعتراف ببعض أطروحاته (المستغربة الآن) رهينا بالزمن الذي يسوق الناس للاعتراف بما كانوا ينكرونه في زمن سابق، والعكس أيضاً صحيح فما كان مقبولاً في زمن سابق (بيع البشر، رضاع الكبير) لن يكون مقبولاً في زمننا هذا، وموقف بعض المتعصبة قديماً من (أبي حنيفة/تاجر قماش) يعطينا تصور عن مآلات يحكمها الزمن رغم أنف معارضيها.


محمد شحرور نجح في الاقتراب من (النص الديني) تجديداً وتأثيراً لأنه أقرب للشروط (الأبستمولوجية/ باشلار في المعرفة العلمية) فعنده وعي بنيوي بالمفاهيم الأساسية للأبستمولوجيا وهي (التراجع الزمني، العقبة الأبستمولوجية، القطيعة الأبستمولوجية) ولأنه (مهندس مدني) وبداخله (الهم الديني بالمعنى الحضاري) الصادق فهو أكثر استقلالية في (المعرفة العلمية الأبستمولوجية) من المكبلين بمعارفهم التراثية على المستوى السيكولوجي بصفتهم (رجال دين)، ولنتأمل مثلاً (العقبة الأبستمولوجية) لنجد أن (ابتكار باشلار لهذا المفهوم الفلسفي قد جعل منه مفكراً أصيلاً في تاريخ العلوم وفلسفتها على السواء، والأمر الذي حدا بباشلار إلى اكتشاف هذا المفهوم هو أنه لم يكن في إمكانه أن يتقبل التاريخ كما يقدمه البعض على أنه تراكم متدرج ومعقد للأفكار، واستبدل بهذه الفكرة فكرة التاريخ الذي يتقدم بالتغلب على الجهل والأخطاء التي تزيد من غموض المشكلات التي يحاول العقل التغلب عليها) راجع ص24 من كتاب نظرية المعرفة العلمية/الأبستمولوجيا لروبيير بلانشيه.

أعلم أن هناك فجوة معرفية يستتبعها فجوة نفسية سلوكية ما بين معنى (العلم) في العصر الحديث، ومعنى (العلم) في ما قبل ستة قرون، يكفي أن ترى بعض العقول (المتعلمة في مدارس حديثة!!!) ما زالت حتى هذه اللحظة تستنكر دينياً حديثك عن طريقة (الاستمطار) علمياً وقد ترى الأرض مسطحة، لأنها تعيش وفق عادات فكرية تسميها (علم) تجاوزها الإنسان الحديث، وخطورة وجود هذه الفجوة التي تحول بين رجال الدين واستخدامهم للمناهج العلمية الحديثة في التجديد الديني هي من ضمن أسباب أخرى جعلت (التطرف بنوعيه) يجد له موطئاً وسط (الجيل الجديد).

أخيراً وتقريباً للأفهام سيتفاجأ القارئ باستحضاري لاسم (رجل العلم) فقهاً وتاريخاً وأدباً (عضو هيئة كبار العلماء) الشيخ عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، كنموذج استطاع تجاوز المعنى الكهنوتي في (رجل الدين) الذي حذر منه القرآن الكريم في قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فعاش بعيداً عن الأضواء بالمعنى الجماهيري الخطير على كل (عالم)، لأنها تحيله ولو لم يعلم من (رجل علم) إلى (رجل سياسة) مهما حوقل واستغفر وأبكى وتباكى (يوسف القرضاوي نموذجاً)، وأخطر منه رجال دين يشدون (الدولة الحديثة) إلى الخلف لتخرج من اعتبارها (دولة القانون) المعترف بها دولياً، لتصبح (دولة الفتوى) العاجزة عن استيفاء الحد الأدنى للاعتراف الدولي مهما تمددت (داعش نموذجاً).