عندما سئل رجل الأعمال الشهير ومالك منصة (X) إلون ماسك، في إحدى المقابلات التلفزيونية عن المسيح وعند رأيه فيه، أجاب ماسك بأنه يحترم تعاليم المسيح ويعتقد أن هناك حكمة عظيمة في تعاليمه، ولكنه في نهاية حديثه أجاب بأنه في الحقيقة يؤمن بإله سبينوزا «God Of Spinoza». طبعًا تصريح شخصية مهمة تعتبر من أكثر الشخصيات ثراءً وتأثيرا في عصرنا الحديث كإلون ماسك، وقوله بأنه يؤمن بإله سبينوزا، يجب أن نتوقف عنده ونضع تحته عشرات الخطوط الحمراء. إجابة ماسك تشبه إجابة عالم الفيزياء الشهير ألبرت آينشتاين عندما سئل عند معتقده الديني وأجاب بأنه يؤمن كذلك بإله سبينوزا. فما حقيقة إله سبينوزا؟

عند الحديث عن سبينوزا نحن نتحدث عن واحد من أبرز فلاسفة أوروبا، فهو ذو تأثير بالغ في الثقافة الغربية. قارة أوروبا ليست في الواقع قارة مسيحية بالكامل فهناك عقائد دينية تتعارض مع المسيحية وتنافسها في كسب الأتباع. والصراع التاريخي بين رجال الكنيسة ورجال الفلسفة خير شاهد على تأثير تلك العقائد الدينية المضادة للمسيحية. وإله سبينوزا لم يكن ابتكارًا للفيلسوف الهولندي سبينوزا فهو موروث ديني قديم يعود تاريخه لما قبل العصر اليوناني القديم، ولكن سبينوزا من أشهر الشخصيات المثقفة التي قامت بالتنظير لهذه العقيدة ويمكن اعتبار فلسفة سبينوزا محاولة لتأويلها. إنه الاعتقاد المشترك لغالب الفلاسفة فهو الإله الذي يعتقد به المؤمنون بعقيدة وحدة الوجود، العقيدة المشتركة للفلسفة والفلاسفة عبر التاريخ. في كتاب (المعجزة السبينوزية... فلسفة لإنارة حياتنا) يقول فريدريك لونوار: «تتخلل كلمة الله كامل عمل سبينوزا، ولكن ما الذي يعنيه بهذا المفهوم على وجه الدقة؟ لقد بيّنت لنا قراءة الرسالة في اللاهوت والسياسة أن تصوره لله كان بعيدًا جدًا عن تصور الديانات التوحيدية التي تعتبر الله بمثابة كائن أسمى سابق في وجوده على وجود العالم الذي كان قد خلقه بإرادته».

اعتقاد المؤمنين بعقيدة وحدة الوجود يتضارب في الحقيقة مع مبادئ الشرائع السماوية وهذا يفسر -كما أسلفنا- الصدامات المحتدمة القديمة بين رجال الكنيسة والفلاسفة. يقول فريدريك لونوار مبينًا حقيقة إله سبينوزا بقوله: «ولكن إله سبينوزا مثلما سنرى، مختلف جدا. فهو لم يخلق العالم -الكوسموس أو الطبيعة الموجودين منذ الأزل- إنه ليس خارجًا عنه، وبالتالي فهو محايثا له تمامًا. ليست له صفات أو وظائف تشبه تلك التي للبشر». نستنتج من كلام لونوار عدة قضايا أثيرت في المجتمع الإسلامي وتناولها الفقهاء، في الحضارة الإسلامية، بالشرح وحاولوا دحضها وكشف جوانب القصور والتناقض فيها، ومنها: مسألة نفي الصفات والتعطيل وقضية قِدم العالم، وكلها ذات صلة وثيقة بعقيدة وحدة الوجود. فالإيمان بعقيدة وحدة الوجود يترتب عليه رفض صفات الإرادة والخلق من العدم والقدرة والكلام للخالق، ولعلنا لا ننسى القضية التي أثارها المعتزلة حول قضية خلق القرآن وبأنه ليس كلام الله.

عقيدة وحدة الوجود ما زالت تعيش في عصرنا، عصر الحداثة والتقنية، فهي تنتقل من جيل لجيل ومن مجتمع لآخر وتتطور وتتشكل ضمن قوالب أي ثقافة تعيش وسطها. هي عقيدة قديمة قدم الإنسانية، فالإنسان البدائي كان يؤمن ببعض الأساطير التي تنظر للطبيعة بأنها كانت بأكملها مسكونة بالأرواح والقوى الخفية. لذلك نشأت كثير من المعتقدات والأساطير التي صنعت علاقة روحانية بين الإنسان والطبيعة من أجل محاورتها والتوافق معها قبل الصيد أو من أجل حماية نفسه وممتلكاته من غضب الطبيعة وثورتها أو من أجل الحصول على الشفاء لشخص مريض. مثل هذه المعتقدات البدائية استمرت مع تطور المجتمع البشري، وتقديس الطبيعة ومظاهرها لم يتوقف عند الإنسان البدائي بل استمر وأصبح هناك شخصيات مثقفة تحاول تفسيرها وتأويلها والدفاع عنها بواسطة مناهج علمية وبحثية متقدمة.

سبينوزا جعل من معتقداته الدينية مبحثًا علميًا، وسعى لتوظيف منهج الرياضيين في محاولة تأويل معتقداته حتى أصبحت مؤلفاته أشبه بكتب الهندسة والرياضيات حيث حوت على طائفة من التعريفات والبديهيات والمسلمات والبراهين والنتائج، فقد كان يعتمد أنموذجًا رياضيًا هندسيًا في تأويل معتقداته ورؤيته للأخلاق والخير والشر. وبما أن سبينوزا من أبرز رموز عقيدة وحدة الوجود فإنه لم يدخر جهدًا في الدفاع عنها ومحاولة تأكيد صحتها ومنطقيتها.