تستحق التجربة الصوفية أن نوليها بعض الاهتمام، وذلك بسبب أن التصوف الأوروبي مال إلى التعبير عن نفسه شعرا وأنتج عددا من الشعراء العظماء أصحاب النزعة الصوفية. وهذا قد يميط اللثام عن العلاقة الوثيقة بين شعر الحداثة وعقيدة وحدة الوجود. باعتبار أن التصوف في أوروبا ينطلق عبر عقيدة وحدة الوجود.

في كتابه «تعاليم الصوفيين- التصوف بين الشرق والغرب» يقول ولتر ستيس: «يتضح الميل الطبيعي نحو مذهب عقيدة وحدة الوجود الذي يعتبر إحدى السمات العامة للتصوف في الغرب» التصوف الأوروبي والشعر الحداثي الأوروبي -على وجه الخصوص- يميل للتعبير عن نفسه بواسطة الوعي الصوفي ولغة الرمز والكشف والتجلي، وهذا الجنس الأدبي يكاد يكون غير معروف في الثقافة العربية الإسلامية. فعقيدة وحدة الوجود لم تستطع أن تفرض نفسها على الثقافة العربية أو تكون منافسة للعقائد الدينية التي يعتنقها المسلمون، حتى وإن كان هناك شخصيات مثقفة حاولت تبني هذه العقيدة في التراث الإسلامي ولكنها في نهاية المطاف عجزت أن تتماسك وتقف في مواجهة عقيدة التوحيد الصارمة، فأخذت تتلاشى مع مرور الأجيال.

هذا لا يلغي القول إن التصوف ظاهرة إنسانية ذات طابع روحي وليس وقفا على ثقافة دون أخرى ولكنه في الثقافة الإسلامية لا يخرج في الأصل عن دائرة تعاليم الإسلام. ولا يقوم على عقيدة وحدة الوجود بقدر ما هو تجربة روحية تقوم على التجرد من النفس ومن جميع الشهوات والرغبات والإنابة التامة إلى الله. فالمبدأ العامل للتصوف في الثقافة الإسلامية يقوم على أساس المحبة بين العبد وخالقه وليس على مبدأ وحدة الوجود كما هو الحال في التصوف الأوروبي. وحول هذه الفكرة يقول عباس محمود العقاد في كتاب «التفكير فريضة إسلامية»: «وظل المتصوفة والمنتسبون إلى الطرق الصوفية من المتأخرين يبرأون من القول بالحلول ووحدة الوجود وإسقاط التكليف ويعتزلون من يقول بها على وجوهها المنقولة من الديانات الوثنية، ولوحظ ذلك في القانون الذي استشير فيه شيوخهم وصدر في الديار المصرية بلائحة الطرق الصوفية سنة 1320 هجرية و1903 ميلادية. وتقرر المادة الثانية من بابه الخامس: أن كل من يقول بالحلول أو الاتحاد أو سقوط التكليف يطرد من الطرق الصوفية كافة».

يتضح لدينا الفرق الجوهري في التصوف بين الثقافتين (العربية والأوروبية)، فهو إن كان تجربة إنسانية وروحية عالمية ولكن كل مجتمع يؤولها ويفهمها وفقا لمعتقداته الدينية. وانتقال اللغة الرمزية الباطنية من عالم التصوف إلى شعر وأدب الحداثة في الثقافة الأوروبية لا يمكن تناوله بمعزل عن عقيدة وحدة الوجود بوصفها عقيدة محورية في التصوف الأوروبي. وفي الثقافات الأوروبية من الشائع استعمال لغة الباطن والرمز في الشعر والأدب. الشعر الأوروبي أقرب للتجربة الصوفية ذات الطابع الطقوسي بعكس الشعر العربي فهو ممارسة إنسانية بسيطة ذات أغراض دنيوية صرفة في الغالب وذات لغة واضحة ومفهومة لا تتصف بالغموض حتى ولو أكثر الشاعر توظيف الكنايات والصور المجازية.

أردنا في هذه المقالة أن نكشف العلاقة الوطيدة بين التصوف والشعر في الثقافة الأوروبية وارتباطهما المباشر أو غير المباشر بعقيدة وحدة الوجود لما تمثله هذه العقيدة من أهمية بالغة وتأثير عميق في المزاج العقلي للشعوب الأوروبية وكيف أنها ألقت بظلالها على مجالات الشعر والأدب والفن. فنجد القصيدة تغوص في عالم الباطن ويختلط فيها العقل الواعي بالعقل اللاواعي في صورة خارجة عن المألوف ولغة غير مفهومة أقرب للغة الطقوس الدينية. فالحداثة وعلاقتها الشائكة بالطبيعة والتصوف وعقيدة وحدة الوجود تمثل ثلاثة محاور لا يمكن دراسة القصيدة الحداثية في أوروبا دون أخذها في الاعتبار.