كان أدب الحداثة وانتقاله للمجتمعات العربية من أكثر القضايا الحساسة، لا لأنه يتضمن صراعًا بين جديد وقديم كما يبدو ظاهريًا، فالمسألة أبعد من كونها نزاع بين (قديم وحديث) لأنها تتضمن في الحقيقة صراعًا ثقافيًا أخذ طابع المقاومة الثقافية في الحراك الثقافي والفكري في المجتمع العربي. فإذا كان أدب الحداثة من ناحية الأصل والتكون وليد الثقافة الأوروبية، فهل يمكن انتقاله للثقافة العربية وجعله منسجمًا مع العقائد الدينية عند العرب. فأدب الحداثة تأثر بالإرث الديني للشعوب الأوروبية أو هو نتيجة طبيعية للتحولات الدينية في أوروبا. بالتالي لا نستطيع أن نجيب عن السؤال: (هل يمكن أن ينتقل أدب الحداثة الأوروبي للثقافة العربية) إلا حين نتعرف على السياقات الدينية لأدب الحداثة في أوروبا.

تمثل النظرة تجاه الطبيعة حجر الزاوية في خطاب الحداثة الغربي. فكثيرًا ما نصادف مقولة (سيطرة الإنسان على الطبيعة) التي تتكرر بشكل لا حصر له في غالب الأطروحات المتعلقة بالحداثة. ما يجعلنا نعتقد أن خطاب الحداثة في الثقافة الغربية لا يتجاوز كونه نظرة خاصة تجاه الطبيعة أو تحول فكري من الخضوع والتقديس للطبيعة إلى الحياد والرغبة في السيطرة عليها. هنا يأتي السؤال الأكثر أهمية: ماذا تعني الطبيعة عند العرب والمسلمين وماذا تعني الطبيعة في التراث الديني لأوروبا؟ الإجابة على هذا السؤال سوف تميط اللثام عن مدى إمكانية انتقال أدب الحداثة وشعرها للثقافة العربية.

إن الطريقة التي يتصور بها الإنسان الطبيعة تختلف اختلافًا جذريًا في الثقافتين العربية والأوروبية. فالطبيعة في الثقافة الإسلامية مخلوقة من العدم والله سبحانه وتعالى متجاوز لها لا يحل فيها أو في أي من مخلوقاته. فالنظرة تجاه الطبيعة عند العرب والمسلمين تصدر وفق ثنائية (الخالق والمخلوق) بمعنى أن الحيز الإلهي مستقل تمامًا عن الحيز الطبيعي. فالطبيعة لدى المسلمين والعرب ليست إلا واقعًا موضوعيًا خالٍ من القيمة. فهي خالية من السحر والروحانية. في حين نجد أن الطبيعة في الموروث الغربي تتضمن جوانب روحانية ومقدسة وتسكنها الآلهة. لذا كان خطاب الحداثة في أوروبا يتضمن سعيًا حثيثًا لتحرير القيم والأفكار تجاه الطبيعة لتجعلها علمانية صرفًا فلا تخضع لأي عقيدة أو موقف ديني باعتبار أن الإله والطبيعة يمثلان جوهرًا واحدًا في الموروثات اليونانية وفق ما يعرف بعقيدة وحدة الوجود التي تؤكد على أن الله يحل في مخلوقاته. وهكذا يمكن الإجابة على السؤال (هل يمكن أن ينتقل أدب الحداثة الأوروبي للثقافة العربية). شعر الحداثة له علاقة وثيقة بموقف الإنسان الأوروبي تجاه الطبيعة فكل المعتقدات الدينية المتعلقة بها انعكس على الفكر والسلوك وبالتالي انعكس على تمظهراتها في حيز الإبداع والشعر والأدب، ونشأت في أوروبا أجناس ومدارس أدبية عرفت بأدب الحداثة والنقد الحداثي، في جو فكري يحمل موقفًا مباشرًا أو غير مباشر تجاه الطبيعة والكون.

شعر الحداثة في الثقافة الغربية لا تعني بأنه معاصر أو جديد بالمعنى الدقيق للكلمة ولكنه حساسية تجاه تحول ما، تجاه الطبيعة المقدسة التي أفرغت من محتواها الروحي، لذا نجد الشعر الحداثي أقرب للتأملات الفلسفية في الكون والحياة والطبيعة ونلاحظ أنه يحمل لونًا سوداويًا يدل على الضيق والحيرة والتشاؤم، وموقفهم من الطبيعة دفعهم تجاه هذه النظرة المتشائمة للحياة. فكثير من الشعراء الأوروبيين أعلنوا رفضهم للواقع الجديد من خلال تصوير نفوسهم الحزينة الساخطة على الحياة والكون، وهو ما دفعهم للثورة على الحضارة التقنية الحديثة. فالإحساس بالعدمية والتشاؤم هو انعكاس منطقي لموقفهم تجاه الطبيعة المدنسة. فأصبحنا نقرأ كثيرًا في كتب الأدب الغربي مفاهيم مثل (العدمية والتشاؤمية والاغتراب والعبثية والقلق الوجودي) وكلها نتائج متوقعة بعدما تعرضت عقائدهم الدينية للتهميش، بفعل الحضارة التقنية ذات البعد العقلاني الصارم الذي يتعامل مع الطبيعة بصورة نفعية ومحايدة. حتى ساد لديهم شعور صميمي بأنهم أمام نهاية العالم.

تفريغ الطبيعة من محتواها الروحي جعل الأجواء الفكرية العامة مشبعة بالتشاؤم وأخذ الإنسان يدرك بشكل متزايد وضعه الزائل في الكون وازداد شعوره بالعزلة والفناء. لذا كان الشعر الحداثي الأوروبي تعبيرًا صادقًا عن فراغ الحياة البشرية من أي معنى. تعددت الاتجاهات الأدبية والمدارس الشعرية وفقدت المعايير الشعرية والقواعد الفنية وكلها تسعى لإيجاد وسيلة للتعبير عن الإنسان الجديد وعلاقته الجديدة بالكون والطبيعة. واطلاع المثقفين والأدباء العرب على الآداب الأوروبية أدى لانتقال شعر الحداثة الأوروبي للمجتمع العربي وبداية تعرف الناس على هذا الجنس الأدبي الغريب، وبداية تضارب الآراء ووجهات النظر حوله، وبدافع التقليد أو المحاكاة فقد لعب الأديب العربي دور الوسيط أو السمسار الثقافي في هذه العملية. سواء كان ناقدًا أو أديبًا.

نستطيع وبكل يسر أن نكشف الدوافع النفسية لولادة ما يعرف بأدب الحداثة في أوروبا، ولكن ما دوافعه كي يعيش ويترعرع في أحضان البيئة العربية التي تحمل معتقدات دينية وثقافة شعبية تختلف جذريا تجاه الكون والحياة والطبيعة؟ فمقولة (سيطرة الإنسان على الطبيعة) يمكن ربطها معرفيًا بأدب الحداثة، ولكن مفهوم الطبيعة والكون في الثقافتين العربية والأوروبية متباين ويصعب التوفيق بينهما، لذلك كان شعر الحداثة العربي يبدو مصطنعًا ويفتعل السوداوية والبؤس.