عندما سئل عالم الفيزياء الشهير ألبرت آينشتاين عن عقيدته الدينية، كان رده متوافقًا مع عقيدة الفلاسفة عبر التاريخ: «أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف عن نفسه في التناغم والتجانس المنظم في كل شيء موجود». هنا يبين آينشتاين بوضوح ودون تردد أنه يؤمن بعقيدة وحدة الوجود التي يعتبر الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا أحد أهم المنظرين لها، وهذا يؤكد أهمية هذه العقيدة في الفكر الغربي ومدى تأثيرها على الثقافة الغربية. هذه العقيدة تمثل المدخل لفهم الفلسفة اليونانية، وجل الفلسفات عبر التاريخ غالبًا ما تدور حول عقيدة وحدة الوجود وتحاول تأويلها وشرحها والدفاع عنها. ولا يمكن لنا فهم طبيعة الفلسفة دون أخذ عقيدة وحدة الوجود بعين الاعتبار.

في كتاب (الحلولية ووحدة الوجود) يقول المفكر المصري عبدالوهاب المسيري: «ويمكننا قراءة تاريخ الفلسفة الغربية على أنه تاريخ صراع بين رؤية إيمانية تؤمن بتجاوز الإله والإنسان لعالم الطبيعة من جهة، ورؤية حلولية كمونية (أساسًا مادية)، من جهة أخرى، ترى أن الإله كامن فيها».

النقاش حول هذه العقيدة ممتد منذ عصر ما قبل الميلاد، والصراع بين الفلاسفة ورجال الكنيسة في التراث الأوروبي لا يخرج عن دائرة الجدلية القديمة بين (القديم والمحدث) فالإيمان بعقيدة وحدة الوجود يترتب عليه الإيمان بأزلية الكون وقدم العالم. وهذه يصطدم مع العقيدة السائدة في الأديان السماوية التي تؤكد أن العالم مخلوق من العدم وأن الخالق منزه عن عالم المخلوقات. هذا الصراع انتقل للحضارة الإسلامية وكان عقيدة وحدة الوجود مقلقة للنخبة السياسية والمثقفة في التاريخ الإسلامي. يحكي الفقيه الأندلسي ابن رشد قصة لقائه الأول مع الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف. وهي قصة تعكس حالة التشكك والريب من انتشار العقائد الدينية للشعوب اليونانية ومدى تأثيرها على حالة الاستقرار الاجتماعي. يقول ابن رشد: «فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن أسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء، يعني الفلاسفة، أقديمة هي أم حادثة، فأدركني الحياء والخوف فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة».

لقاء ابن رشد مع الخليفة الموحدي كان البداية الفعلية لابن رشد مع المنطق الأرسطي، فالتعامل مع العقائد اليونانية يتطلب مشروعًا سياسيًا ثقافيًا ضخمًا، وسيلعب ابن رشد دورًا محوريًا فيه. كان الخليفة الموحدي يحمل وعيًا سياسيًا ثاقبًا فهو يدرك تمام الإدراك وجود شريحة من المجتمع ظلت تحتفظ بشيء من الولاء والانتماء لثقافتها ومعتقدها الديني السابق للإسلام. وبالتالي فهي تسعى بشكل واعي أو غير واع لتأويل معتقداتها السابقة لتكون منسجمة ومتوائمة مع مفاهيم الدين الإسلامي.

لم تتسرب الأفكار الفلسفية لعالم العرب والمسلمين عبر ترجمة كتب اليونان، فهي موجودة في المجتمع مسبقا، على هيئة شذرات من معتقدات قديمة عالقة في ذاكرة ووجدان الشعوب المعتنقة حديثًا الإسلام، ولكن التعاطي العلمي والمنهجي مع معتقدات الفلاسفة يتطلب ترجمة أمهات الكتب اليونانية وشرحها والرد عليها، والتعرف على ثقافة الشعوب اليونانية ومدى انسجام معتقداتهم الدينية مع عقائد الإسلام. فالمسألة في الواقع حساسة للغاية لأن عقائد اليونان كانت تصطدم مع أهم ركيزة في الدين الإسلامي وهي عقيدة التوحيد وما يترتب عنها من إيمان بأسماء الله وصفاته.

وامتدادًا لحديثنا عن ابن رشد وقصته مع الخليفة الموحدي وسؤاله عن قدم السماء وحدوثها. تطرق أبو حامد الغزالي لمسألة شبيهة في كتابه (تهافت الفلاسفة) وهي أزلية الشمس، فقد طرح الغزالي اقتباس لجالينوس يثبت فيه جالينوس أن الشمس قديمة وليست مخلوقة، يقول: «ما تمسك به جالينوس إذ قال: لو كانت الشمس مثلا تقبل الانعدام، لظهر فيها ذبول في مدة مديدة، والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف السنين لا تدل على هذا المقدار، فلماذا لم تذبل في هذه الآماد الطويلة، دل على أنها لا تفسد».

اعتقاد فلاسفة اليونان أن الشمس والسماء وبقية مظاهر الكون أزلية وقديمة يمكن فهمه من خلال عقيدة وحدة الوجود التي تؤمن بأن كل الموجودات هي الإله، وأن الإله هو العالم. بمعنى أن السماء والشمس وكل موجود أزلي قديم. ومثل هذه العقائد القديمة عاشت منذ عصر جالينوس واستمرت حتى عصر ابن رشد والغزالي مرورًا بعصري سبينوزا وآينشتاين. وما زال هناك أنصار ومؤيدون لها في العصر الحديث. لذلك يجب علينا التعامل مع الفلسفة باعتبارها تراثًا مرتبطًا بثقافة الشعوب اليونانية ومعتقداتهم الدينية وليس مشتركًا إنسانيًا يمكن تعميمه على بقية شعوب العالم.