الأدوار العلمية لابن رشد تذكرنا إلى حد كبير بمشروع الاستشراق الذي قامت به نخبة مثقفة وأكاديمية للدول العظمى التي أرادت التعرف على ثقافة الشرق ومعتقداته الدينية وتراثه الأدبي ليسهل التعامل معه على المستوى السياسي.
ابن رشد كان في الحقيقة منهمكا في عالم السياسة ويلعب أدوارا سياسية متخفية وراء ستار الفلسفة وكتب اليونان. ومن يقرأ شروحات ابن رشد للتراث اليوناني يتعجب من القدر الكبير من الحيادية الذي يتمتع به ابن رشد، فتعاطيه مع الثقافة اليونانية يكاد يخلو من أي عاطفة دينية، فلا تستطيع أن تحدد موقفه الحقيقي من الفلسفة اليونانية. فهو يتعامل مع أرسطو -على سبيل المثال- وكأنه عينة للدراسة والبحث، وليس باعتباره أستاذا ومعلما يطمح في الأخذ من علمه. فالصورة النمطية عن ابن رشد التي توحي بأنه ليس إلا تلميذا نجيبا هي صورة مغلوطة وغير حقيقية. فأرسطو في الواقع مجرد عينة للدراسة نظرا لتأثيره الطاغي على الشعوب غير العربية التي دخلت الإسلام حديثا وما زالت تحتفظ بشيء من معتقداتها القديمة السابقة للإسلام.
علاقة ابن رشد بالتراث اليوناني وبأرسطو على وجه التحديد، علاقة ملتبسة وغير واضحة نظرا لخلوها التام من العاطفة الدينية، فهو يتعاطى معها من زاوية سياسية بعكس شخصيات أخرى عرفت بموقفها المضاد للفلسفة اليونانية كالغزالي وابن تيمية فقد كانت العاطفة الدينية حاضرة في دراستهم للتراث اليوناني ولكن ابن رشد يتعاطى معها من زاوية مغايرة. فهو في مهمة علمية يريد أن ينفذها على أكمل وجه تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف.
اهتمام النخبة المثقف بكتب اليونان له اعتباراته السياسية الواضحة، نظرا للعلاقة الوطيدة للفكر اليوناني بالشعوبية من جهة أخرى، والشعوبية كما نعرف ذات نزعة سياسية قوية، وإذا أخذنا في الاعتبار أن العقائد الدينية السابقة للإسلام كعقيدة الفيض الإلهي وحدة الوجود وجدت لها حاضنة فكرية وشخصيات مثقفة -ابن سينا والفارابي على سبيل المثال- حاولت من خلال أطروحات علمية جادة أن توفق بين عقائد الشعوب اليونانية وعقيدة الإسلام القائمة على مفهوم التوحيد، مما يعني أن الوحدة الفكرية للمجتمع مهددة بالانقسام الحاد الذي قد يكون لها تبعاته الاجتماعية السلبية على المجتمع في المستقبل.