كيف يمكن للفلسطينيين والعرب، وأي شعوب ومجتمعات معنية بمأساة غزة أو حتى دول لم تفقد حكوماتها كل حس إنساني، أن تثق بالكلام الواعد لمرحلة «ما بعد الحرب»؟ قيل في الأسابيع الماضية إن عملية «طوفان الأقصى» وما تلاها شكلت صحوة سياسية بعد الصدمة العسكرية والاستخباراتية، وإن المجتمع الدولي لم يعد ليقبل بأي حرب أخرى في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بعدما انتهى عملياً الصراع العربي- الإسرائيلي على مستوى الحكومات والجيوش النظامية. أكثر من ذلك، أوحت دول عديدة مثل روسيا والصين وحتى كندا وأستراليا ونيوزيلندا، فضلاً عن الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، بأن «حل الدولتين» هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة والحرب، ويشار إلى هذا «الحل» باعتباره «الأفق السياسي» الذي يجري البحث عنه منذ أعوام.

يؤيّد العرب هذا التوجّه، كذلك الفلسطينيون (بما في ذلك «حماس» الآن ولو تلميحاً)، لكنهم يطرحون جبالاً من أسئلة مزمنة يمكن اختزالها باثنين: هل تريد الولايات المتحدة والدول الغربية، فعلاً، حل هذا الصراع؟ وهل بلغت فعلاً مرحلة الضغط على إسرائيل لقبول حل سلمي دائم؟

ليس العرب وحدهم مَن يشككون في النيات أو في ما يسمعون من واشنطن، وليسوا وحدهم مَن يدللون إلى ما يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزراؤه المتطرّفون أو يشيرون إلى أن المشكلة كانت ولا تزال في إسرائيل. لكن يفترض أن يكون الجميع -العرب والأميركيون والغربيون وغيرهم- واعين الآن إلى أن تركهم إسرائيل لأكثر من عقدَين تتصرف وحدها بالشأن الفلسطيني كان خطأً جسيماً أدى إلى الكارثة الحالية. وإذا كان بعضهم أو جميعهم يعتبر أن «حماس» والفصائل الأخرى تمثل تطرفاً، فإن ثمة تطرفاً إسرائيلياً يقابلها وقد تأخرت الجهات الغربية كثيراً قبل أن تدرك خطورة المستوطنين وتفرض عليهم عقوبات شكلية، من دون أن تتعرض للأحزاب المتطرفة التي تشحنهم وتعتمد عليهم وعمدت أخيراً إلى تسليحهم. ربما كان هناك اعتماد غربي على «الديمقراطية الإسرائيلية» كي تحتوي هؤلاء، لكن هذا خطأ جسيم آخر.

قبل البحث في «ما بعد غزة» ينبغي النظر إلى «ما قبل»، واستعادة قولة أنطونيو جوتيريش إن ما حصل «لم يأتِ من فراغ» وأسباب غضب إسرائيل منها، إذ إن الأمين العام للأمم المتحدة أحال «الفراغ» هذا إلى سياساتها وممارساتها كـ «دولة احتلال» يعترف العالم بها كـ «دولة» لكنه لا يعترف بالاحتلال. قبل «7 أكتوبر» كانت إسرائيل حسمت خياراتها، فهي ترفض «حل الدولتين» وحل الدولة الواحدة«، وترفض «المقاومة السياسية» التي تنتهجها السلطة الفلسطينية و»المقاومة المسلّحة» التي تلوّح بها فصائل غزّة، وتستخدم «اعتدال» السلطة لإضعافها و»تطرّف» الفصائل لإبقاء غزّة حقل تجارب لأسلحتها ولتغذية الانقسام الفلسطيني كصيغة مناسبة لإطاحة أي ضغوط دولية من أجل استئناف المفاوضات بذريعة أنه ليس هناك طرف فلسطيني واحد يمكن اعتباره «شريكاً» في تسوية أو في «سلامٍ» ما. وحتى عندما كان هناك شريك، أيام الراحل ياسر عرفات ثم أيام محمود عباس الأكثر وضوحاً في رهانه على التفاوض ولا شيء غير التفاوض، لم تكن هناك جدّية من جانب إسرائيل أو واشنطن للدفع باتجاه إنجاز التسوية، وبعد ذلك تعاملتا مع انقلاب «حماس» على السلطة وكأنه «المفاجأة السارة» التي انتظرتاها لإدارة تعفّن السلطة في الضفة وتحويل غزّة إلى زنزانة لأهلها.

استغلّت حكومات إسرائيل هذا الوضع لتدشين مرحلة إزالة القضية الفلسطينية من برامجها واعتبارها من الماضي، وتشاركت مع إدارة دونالد ترمب في مسلسل انقلابات دبلوماسية تدعم شطب القضية قبل أن تستنبطا «صفقة القرن»، متجاوزتين أي قانون دولي يشير إلى وجود «احتلال» أو ينقض «شرعية الاستيطان»، وملتفتين على مشروع «حل الدولتين» لتكون الدولة الفلسطينية العتيدة مجرّد سلطة رمزية على ما يتبقى من أرض بعد أن تضمّ إسرائيل ما تشاء من مناطق الضفة الغربية، أما غزّة فكان واضحاً أنها تُركت مشاعاً لمشاريع التطبيع الإقليمي مع إسرائيل. ومع أن إدارة جو بايدن لم تعتمد رسمياً «صفقة ترمب- نتنياهو» إلا أنها لم تلغ مفاعيلها ولم تطرح بديلاً فواصلت إسرائيل الاستيلاء على الأرض لمشاريع الاستيطان، وتفعيل الاعتراف الأمريكي بالقدس «عاصمة لها» بالتمدّد في القدس الشرقية، والسعي إلى السيطرة على المسجد الأقصى وسائر المقدسات الإسلامية والمسيحية، وكذلك التمادي في تحويل فرض «سيادتها» تنكيلاً منهجياً بالشعب الفلسطيني.

في غضون ذلك كانت إيران استكملت زرع بنى المقاومة المسلّحة في غزّة مستثمرةً في الفراغ الناجم عن جمود المفاوضات والتسويات إلى أن شكّلت «هبة القدس» (2021) فرصة لإظهار سلطة «حماس» وفصائل غزّة على الشأن الفلسطيني، ثم راحت إيران تنسج واقعاً جديداً في الضفة الغربية مستغلّة انسداد الآفاق وإمعان سلطات الاحتلال في تهميش السلطة والتضييق على المجتمع فبدأت تظهر مجموعات مقاومة مسلّحة في مدن الضفة وبلداتها. قابلت إسرائيل كل ذلك بتكثيف الضغوط على واشنطن لجرّها إلى حرب على إيران لكنها لم تنجح، وأيضاً باستخدام الدور الإيراني كعنصر إضافي لتغطية سياسات حكومتها وأحزابها المتطرّفة من جهة، ولتبرير حملات الدهم والاقتحام بحجة أن هذه مهمة سلطة رام الله لكنها «ضعيفة» و«غير متعاونة» من جهة أخرى.

كان هذا هو الوضع الذي تفجّر في «7 أكتوبر» وأصبح أكثر تعقيداً بعدها، وقد مكّن الدعم الأمريكي والغربي «المطلق» إسرائيل من شنّ حرب انتقامية ووحشية، ومن التمهيد لنكبة ثانية، وعلى الرغم من وجود عشرات آلاف الضحايا والدمار الكبير الذي جعل غزّة مكاناً غير قابل للعيش فيه فإن كل ما يُطلب منها اليوم أن تكون «أكثر دقة» في القتل، فيما العالم يناشد واشنطن أن تتلفّظ علناً ورسمياً بهذه العبارة: «وقف فوري لإطلاق النار»، لكنها لا تفعل، بل تستمر في البحث عن «صورة النصر» لها ولإسرائيل، حتى كانت بقتل الرهائن أو بجرافة تدفن الجرحى الأحياء في مستشفى كمال عدوان.

وبهذا «النصر» الوحشي يراد البحث عن مستقبلٍ لغزّة، مستقبلٍ لفلسطين. وفيما تصرّ إسرائيل على أن تكون «السلطة الأمنية» لها في كل فلسطين وتستعدّ لإخضاع الضفّة الغربية بعدما دمّرت غزّة، وفيما تلحّ على إلغاء «اتفاقات أوسلو» (1993) باعتبارها «خطأً لن يتكرّر» وتطرح مشاريع جديدة للاستيطان، هل يبدو الكلام على «حل الدولتين» جدّياً أم أنه تخدير تمهيدي لدفن هذا الحلّ؟ كانت واشنطن وإسرائيل اعتبرتا قبل ثلاثين عاماً أن السلام يتطلّب تغييراً في سلوك العرب، وقد حصل، لكن الواقع يُظهر أن الحلّ الحقيقي للصراع بات يتطلّب تغييراً في السلوك الأمريكي- الإسرائيلي ومراجعة لإستراتيجية الحليفَين وأهدافهما، وإلا فإنهما سيواصلان نقل الملف الفلسطيني من العرب إلى إيران...

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»