إسرائيل ما بعد هي إسرائيل ما قبل. عقل أمني لديه آلة قتل بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً. برهنت على مر العقود كل ما تستطيع ضد الشعب الفلسطيني، لكن حتى «الخيار النووي» لا يمكنه قطع هواء التنفس أو سحق إرادة الحياة. وعلى مر العقود لم تكن معنية بأي سلام في أي مرحلة، ولا بأي عملية لتنظيم العلاقة و«التعايش» مع الفلسطينيين تنفيذاً للاتفاقات التي وقعتها معهم، بل عملت دائماً وفقاً لخطط معدة هدفها مضاعفة الاستيطان وتكريس الاحتلال، وبيتت دائماً انتهاك الاتفاقات بلا تردد. وبكل هذه المعاني، وبعد كل ما شهده العالم من فظائع في قطاع غزة، سيبدو أكثر فظاعة أن يُكتفى بهدنة أربعة أيام... ثم يُستأنف القتل، في انتظار توصل المفاوضين إلى هدنة أخرى واتفاق آخر على تبادل الأسرى والرهائن.

حتى في التبادل الذي تم في الأيام الأخيرة لم تفوت إسرائيل الفرصة للتلاعب ببنود الاتفاق، سواء ما يتعلق بمعايير متفق عليها لاختيار الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم، أو بالنسبة إلى حجم المساعدات المجاز إدخالها من معبر رفح. بل إنها هددت بنسف الاتفاق ومواصلة عمليتها البرية بعدما أخرت «كتائب القسام» تسليم الرهائن الإسرائيليين إلى أن تلتزم حكومتهم بما اتُفق عليه. لكن إسرائيل تجاوزت كل التصورات عندما فرضت منع الفلسطينيين من الاحتفال باستقبال أسراهم المحررين، وذهبت إلى حد اقتحام بيوت الأسيرات ومصادرة حلوى الضيافة وطرد كل من ينتظر وصولهن وحتى أخذ رهائن من أفراد العائلات لإجبارها على عدم إبداء الفرح. وقيل إن هذه الإجراءات تمت بأوامر إيتمار بن غفير، أحد وزراء اليمين المتطرف الذين فضحوا حقيقة إسرائيل و«الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، لكنها أوامر لا تسري طبعاً على ذوي الرهائن الإسرائيليين المسموح لهم بالفرح، وهذا حقهم، كما يجب أن يكون حق الفلسطينيين. بعد 30 عاماً على «اتفاقات أوسلو» (1993)، واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بـ«دولة إسرائيل»، ليس هناك اعتراف إسرائيلي مقابل بوجود شعب فلسطيني، ناهيك بموافقة ولو مبدئية أو مراوغة على «دولة فلسطينية». ورغم أن يوآف غالانت تلفظ بعبارة «حيوانات بشرية» التي صدمت كثيرين، فإن أياً من ساسة العالم لم يُسمع مندداً بهذا الوصف الذي يواصل وزير الحرب استخدامه، وهو يعكس طوية عقول وتفكير شركائه وقد غدوا جميعاً وزراء حرب. كيف يمكن أن يكون شخص كهذا «شريكاً» أو عضواً في أي مجموعة تريد البحث في مستقبل قطاع غزة شعباً وأرضاً؟ وكيف يمكن لحكومة تشرع القمع المستدام وهدم البيوت والتمييز العنصري وتعتمد سياسة القتل والتدمير المنهجيين والمتعمدين في غزة، وانتهاك المقدسات في القدس وتسليح المستوطنين ودعم عنفهم وهجماتهم، أن تُعطى كلمة في تقرير مصير شعب تحتل أرضه؟ وفي أي حال، كما أشار كثيرون، هذه دولة لم تطرح طوال سبعين عاماً مشروعَ سلام واحد، وليس لديها الآن سوى مشاريع تقتيل وتدمير وتهجير وإعادة احتلال وتشديد القبضة الأمنية وإفساد الإفراج عن أسرى باعتقال أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني في الضفة والتنكيل بهم (قُتل ستة منهم تحت التعذيب، وفقاً لنادي الأسير).

إلى أي حد ستأخذ الأطراف الأخرى، الأمريكيون والأوروبيون وخصوصاً العرب، بالشروط التي ستتشدد إسرائيل في فرضها، وكيف ستتعامل مع محاولاتها لعرقلة أي مشاريع لإعادة الفصل بينها وبين قطاع غزة، أو لإعادة الربط بين الضفة والقطاع، وبأي وتيرة يمكن أن تتم ترتيبات ما بعد الحرب؟ أسئلة وغيرها لا أحد يملك إجابات دقيقة عنها، فليس واضحاً بعد متى تنتهي الحرب أو ما هو مداها الزمني أو كيف ستُعتبر منتهية فعلاً. فهذا يتوقف عملياً على إقرار إسرائيلي- أمريكي في وقت معين بأن «القضاء على حماس» كهدف أقصى معلن قد أُنجز بدرجة ما من «إضعاف قدراتها العسكرية». لكن المتوقع أن تبقى قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، أولاً للإشراف على أمن القطاع، كما تقول، وأيضاً للتدخل في ما يعد لـ«إدارته» بعد الحرب.

في الأثناء يجري التداول بصيغ واقتراحات شتى، وسط عناوين تراوح بين «عملية سياسية متكاملة» و«خريطة طريق نحو حل الدولتين» و«رؤية (دولية) واضحة» و«رفع الحصار». ونقلت مصادر ومواقع عديدة أن هذه المطالبات تتردد خصوصاً في عواصم الخليج المعتمد عليها للمساهمة في إعادة الإعمار وتريد أن تتعرف إلى الوجهة التالية ومدى جديتها، بل تتردد أيضاً في عواصم الاتحاد الأوروبي للأسباب ذاتها إذ سبق لها أن استثمرت في مشاريع انتهى مصيرها إلى التدمير. ولا شك أن المتفق عليه ضمناً ولا يُصرح به علناً هو أن استعدادات هذه الدول للاستثمار في الإعمار تتوقف أيضاً على طبيعة دور «حماس» وسائر الفصائل في المرحلة المقبلة، لأن وجودها وسلطتها وارتباطها بإيران ومشروعها من شأنها أن تثبط عزائم التمويل. فبين إسرائيل حتى خارج القطاع وبين فصائل تطمح إلى مواصلة المقاومة يصعب تصور بيئة مناسبة سواء للأمن أو للشروع في إعادة الإعمار. لذلك فإن «تغيير الواقع» يكتسب هذه المرة أهمية وأولوية قصويين، ولا يمكن تغييره إلا بإنهاء الحصار الخانق المفروض على غزة، وكذلك على الضفة، أي بإنهاء الاحتلال.

كما أن واشنطن والعواصم الأوروبية تعمل كل منها منفردة على جمع الأفكار وتقدير الاحتمالات، كذلك تفعل الدول العربية المعنية. وعلى رغم أن بيان القمة العربية- الإسلامية تضمن كثيراً من الإجابات المستندة إلى قرارات الشرعية الدولية، فإنها لا تبدو كافية لتشكيل سياسة مجمع عليها عربياً (أو إسلامياً). فلا «التطبيع» العربي مع إيران رجح اعتماد «المقاومة» كعنصر مساعد لتحريك القضية الفلسطينية، ولا «التطبيع» العربي مع إسرائيل برهن فاعلية سياسية في حلها. على العكس، ينعكس التمايز/ الانقسام بين «الاعتدال العربي» و«محور الممانعة» على الفلسطينيين أنفسهم، ويعطي مساحة واسعة لصراع مستدام تخوضه الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، وكل منها لا تبحث عن حل حقيقي ينهي معاناة الشعب الفلسطيني.

من «الإدارة الانتقالية» في غزة إلى «تغيير قيادة السلطة الفلسطينية» إلى خيارات «القوة الدولية- الإقليمية» مع الأمم المتحدة، هناك تخبط وفوضى في الاقتراحات. فالدول المنخرطة تتنافس على انتزاع الأدوار ولديها تفضيلاتها للأشخاص والتدابير، كما أنها حائرة إزاء دعم وحدة الفلسطينيين والربط بين الضفة والقطاع كعنصرين حاسمين لتمكين «حل الدولتين». فالمعلوم أن إسرائيل وواشنطن عملتا على تعميق الانقسام بين الفلسطينيين وتكريس الفصل بين المنطقتين، ولا يُعول عليهما لتغيير هذا الواقع جذرياً... لذلك ينتظر الجميع «مبادرة» من الإدارة الأميركية لكن جو بايدن لديه انتخابات تبدو صعبة، وبالتالي فإن الظرف لا يسمح له باستعداء «اللوبي اليهودي».

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»