«فيتو» أمريكي. «فيتو» روسي... ويرتفع عدّاد الضحايا في غزّة مئات بعد مئات من الأطفال والنساء. يخرج كل شيء عن الخدمة، الاتصالات والإنترنت بعد الماء والكهرباء والدواء والوقود. مجلس الأمن الدولي بلا أي فاعلية، الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراتها غير ملزمة. ولماذا هذا «الفيتو» وذاك: الأمريكي يقترح، مراوغًا، وقف إطلاق نار على فترات قصيرة متقطّعة. والروسي يطلب، مناورًا، وقف إطلاق نار أوسع. والاثنان يعرفان مسبقًا أن إسرائيل لا تقبل أيًا من الصيغتين، بذريعة أن الهدنة تفيد «حماس»، ولا تهتم إن كانت تفيد المدنيين الغزيين، فهي تشنّ عليهم الهجمات الجوية والصاروخية غير مميّزة بينهم وبين المقاتلين، وتهدف إلى الخلاص منهم جميعًا مستهجنة أن يسمّى ذلك إبادة أو جرائم حرب يحرّمهما قانون دولي لم تعترف به يومًا.

لا «هدنة إنسانية» إذًا، بل انتظار للهجوم البرّي. هكذا قرّرت دول الغرب، لأن الثنائي الإسرائيلي- الأمريكي استبعد «الهدنة»، وبالتالي أقصى «الإنسانية». لذا راح الأوروبيون يلعبون بالكلام، إذ يريدون «إيصال المساعدات» إرضاءً لبعض مجتمعاتهم لكنهم لا يوافقون على وقف لإطلاق النار انسجامًا مع سياسات اصطفّوا وراءها، فبين المصالح والتغاضي عن الإجرام اختاروا السكوت على المجازر المتعاقبة. لم تكن الأسابيع الثلاثة وقتًا للضمائر، ولا للقواعد والأعراف، وإنما للقتل والتدمير والتهجير والحرمان من مقوّمات الحياة إعمالًا للعقاب الجماعي لمن يرفضون الرضوخ للاحتلال. إذا لم يكن هذا دمارًا شاملًا فما عساه يكون. اكتشف الدبلوماسيون في الأمم المتحدة فجأةً أنهم لم يعودوا يعرفون زملاءهم الغربيين الذين انقلبوا رأسًا على عقب، وكأن التاريخ بدأ عندهم وتوقف يوم «7 أكتوبر» فصار إقناعهم بأبسط القواعد القانونية ضربًا من المستحيل، وراحوا ينهون كل نقاشٍ بالقول «لنترك الإسرائيليين يأخذون بالثأر، وبعد ذلك نتكلّم».

هذا ليس كيلًا بمكيالين بل بمكيال واحد، وبلا أي معايير عقلانية أو أخلاقية أو حتى سياسية، كأن استثناء إسرائيل من القانون الدولي هو القاعدة وليس العكس، أو كأن احتلال الأرض الفلسطينية واضطهاد شعبها وقتله والتنكيل به واقتلاعه هي الشاهد الوحيد على أن ثمّة في هذا العالم شيئًا اسمه «شرعية دولية» موجودة ومحققة. عندما انسحبت إسرائيل من قطاع غزّة عام 2005 حرصت على فصله عن الضفة الغربية وإبقائه محاصرًا ولا وجود له إلا على خريطة «الاونروا» والمنظمات الأممية الأخرى، وهي تفصله الآن عن العالم لتتفرّغ للمذبحة الكبرى تحت جنح الظلام وبمعزل عن أي شهود. وقرّرت إسرائيل والولايات المتحدة بعد ذلك أن العرب ليسوا معنيين لا بالقطاع ولا بالضفة ولا بالقضية التي يصفونها بـ «المركزية»، ولا حتى بمشاعر مجتمعاتهم أو بحقائق التاريخ والجغرافيا، بل بـ «لعبة» وحيدة متاحة هي «التطبيع» مع إسرائيل. أصبحت الحكومات شهود زور أمام الفظائع وعمليات التلفيق والاحتيال لضرب أي تسوية سلمية وتكريس الاحتلال الإسرائيلي، وأمام جنون الحقد والتعصّب والعنصرية التي طفحت من ممارسات اليمين الإسرائيلي المتطرّف ومستوطنيه، وكأن العرب نبذوا أجندات الإسلام السياسي والإرهاب المتمثّل بفروعه «القاعدية» و«الداعشية» والإيرانية ليرحّبوا بأجندات بن غفير وسموتريتش وغيرهما أو ليكونوا أدوات في حماية بنيامين نتانياهو من الملاحقات القضائية بتهم الفساد.

تتصرّف إسرائيل متجاوزةً أي اعتبار للعرب، كما لو أنها أخذت ترخيصًا منهم لـ «القضاء على حماس»، أسوة بما حصلت عليه من دعم أمريكي وغربي. لكن غزّة وأهل غزّة لا يُختصران عربيًا بـ «حماس». صحيح أن معظم الدول العربية لا يقرّ أساليب عمل هذه الحركة ولا يطمئن إلى ارتباطها الوثيق بإيران، غير أن الموقف العربي يرفض العنف الوحشي المفرط في ردّ إسرائيل على عملية «طوفان الأقصى». وبالنظر إلى الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية والضغط في اتجاه تهجير الغزيين إلى سيناء وتصاعد الحديث عن الأردن كـ «وطن بديل» لفلسطينيي الضفة، فإن الموقف العربي قد يتغيّر جذريًا حيال إسرائيل، لأنها باتت تُشهر عداءً ونياتٍ لزعزعة استقرار دول الجوار بما فيها تلك التي وقّعت معها اتفاقات سلام.

لم تستجب إسرائيل لدعوات دول عربية أساسية إلى وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات اللازمة إلى غزّة، وحتى واشنطن لم تتوفّر لديها الشجاعة والحكمة لإعطاء الجانب الإنساني أي فرصة. هذا يكشف إلى أي حدّ عاد التباعد التاريخي بين الأمريكيين والإسرائيليين من جهة، وبين العرب من جهة أخرى، حول «القضية المركزية»، لمصلحة تقدّم التقارب العربي مع الصين وروسيا. والأهم أنه يكشف كيف قوبلت الرؤى العربية بالنسبة إلى «السلام» كخيار مستقبلي بالجحود والخداع. ولأن العرب لن يعودوا بل لا يستطيعون العودة إلى خيار الحرب، فإن الأمريكيين والإسرائيليين لا يعتبرون أنفسهم مضطرّين لإنصاف الفلسطينيين، لا بـ «حلّ الدولتين» ولا بغيره. فعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي وأركان إدارته يكرّرون تمسكهم بهذا «الحلّ» إلا أن السياسة التي يطبّقونها أظهرت أنهم يغذّون «وهمًا» فيما يتركون نتانياهو وزمرة المتطرّفين في حكومته يتصرّفون بالمصير الفلسطيني. هذا لا يمكن أن يصنع مستقبلًا مستقرًّا في المنطقة.

لن يبقى لأمريكا وإسرائيل، أمام المعضلة الإستراتيجية التي تشكلّها «حماس» لهما في غزّة، سوى أن تجرّبا عقد صفقة/ تسوية مع إيران، الطرف الذي برهن أخيرًا أنه استطاع ليس فقط الاستحواذ على القضية الفلسطينية وإعادتها إلى الواجهة بواسطة «حماس»، بل أيضًا تشكيل خطر على إسرائيل وإعادة الصراع الإقليمي إلى دائرة الحروب، مع استعداده للتفاهم إذا لبّيت مصالحه. كان الرئيس الأمريكي حذّر إسرائيل من أخطاء «انفعالية» ارتكبتها أمريكا- عسكريًا- في حروبها على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وكان الأحرى به أن يعتبر ما حصل أخيرًا في 7 أكتوبر 2023 نتيجة لخطل السياسات الإسرائيلية ولأخطاء سياسية كارثية ارتكبتها إدارات أمريكية متعاقبة وكانت أكثر خطرًا في عهد باراك أوباما الذي سلّف إيران مكاسب إقليمية ولم يستوفِ منها أي مقابل لا لأمريكا ولا لحلفائها وأصدقائها في المنطقة.

خلافًا للولايات المتحدة التي غدت شريكًا مباشرًا في حرب غزّة، بما في ذلك تغاضيها عن الإجرام في حق المدنيين العزّل، نأت إيران بنفسها عن أي مسؤولية وساعدتها الدول الغربية في ذلك للحفاظ على خطٍ تفاوضي يبدو ضروريًا الآن سواء لإطلاق المحتجزين الأجانب لدى «حماس»، أو لاحقًا لتسوية إنهاء الحرب في ضوء الحال التي ستؤول إليها «حماس» بعد قتالها والضربات التي ستتعرّض لها. لذلك اضطرّت واشنطن إلى تعديل مشروع قرار قدّمته في مجلس الأمن، فحذفت مطالبة إيران بوقف تسليحها للميليشيات التابعة لها وحتى البند الذي يطلب الاعتراف بـ «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب».

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»