وقد لاقت هذه الرؤية ردود فعل عريضة وواسعة على مستوى العالم إذ اعتبرت استعلاءً فكرياً وتهميشاً إقصائيًا لحضارات وثقافات عريقة، وقد روج دعاة الليبرالية في الغرب للفكرة الليبرالية من خلال المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية، وهو ما أكد عليه المفكر عبد الله العروي، عندما قال بإن المنظومة الليبرالية لا تعمل بمفردها، بل توظف لمساعدتها منظمات ومذاهب وهيئات دولية و[شخصيات سياسية].
وعلى الرغم من التدويل العلني لليبرالية وعولمتها ، إلا أنها واجهت مقاومة في بعض أجزاء من العالم، ومن بينها العالم العربي والإسلامي، مما دفع دول الغرب الصناعي وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضغط السياسي - الثقافي الممنهج على بعض دول العالم العربي .
ولكن إذا ما نظرنا إلى الليبرالية في الخطاب العربي، فإننا لا نجدها تختلف عنها في نسختها الغربية من حيث التنظير، وإن اختلفت من حيث الممارسة والتطبيق.
فالليبرالية الغربية قامت على تسلسل مرحلي، إذ لا يمكن عزل مرحلة عن أخرى.
أما في العالم العربي، فقد اختزلت الليبرالية العربية المراحل التسلسلية لليبرالية الغربية حيث ينادي بعض الليبراليين العرب بالتطبيق الفوري للمفهوم الليبرالي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي.
ولذلك سعت الليبرالية العربية إلى استنساخ الليبرالية الغربية وإحلالها في الواقع العربي، واكتفى الليبرالي العربي، بالتماهي مع النسخة الغربية تنظيراً.
ولوجود هذه الفروق الجوهرية بين الليبرالية في بيئتها الأصلية، ورجع صداها في العالم العربي، فقد شكك كثير من الباحثين في وجود ليبرالية عربية حقيقية ذات مشروع تأسيسي بنائي، خصوصا في الجانبين الفكري والسياسي.
إذ لا يوجد فكر ليبرالي عربي متكامل واضح كما يقول الدكتور أسامة الغزالي العضو المؤسس لجمعية النداء الجديد، لأنه يعتقد أن [هذا الفكر ، غير قادر على بلورة ذاته].
وإن كان الخطاب الليبرالي العربي اقتصر على «التبشير بمدنية وثقافة حديثتين، هما مدنية أوروبا وثقافتها، ولذلك فقد عاش التيار الليبرالي العربي حالتين متغايرتين:
حالة الواقع الغربي بمده الحضاري.
وحالة الواقع العربي الانكماشي.
وقد وقف أنصار التيار الليبرالي العربي على الحالتين معاً خاصة ممن تداخلوا مع الغرب أثناء الاستعمار والحروب والبعثات ما أدخلهم في حالة إنبهار بمكتسبات حضارة الغرب ، متخذين جانب المخاصمة لكل ما لا يتفق مع هذه الحضارة ، جاعلين ذلك أساس مشروعهم النهضوي .
وإن كانت جاءت بدايات الفكر الليبرالي في العالم العربي مع ما يعرف بمحاولات الإصلاح المتلاحقة التي تبناها العالم العربي، والتي اقتبسها أو نقلها من المناهج والنظم الأوروبية، في محاولة للإستفادة من معطيات الحضارة الحديثة .
وتحديث الحياة وفق التقاليد الليبرالية الأوروبية.. وإحالة التراث العربي إلى قراءات نقدية مستمدة من أصول المنهجية العلمية الغريبة الحديثة.
فالتيار الليبرالي العربي بشكل عام يرى أن تفعيل المبادئ الليبرالية في المجتمعات سوف يقود إلى وعي حضاري جديد.. لذلك بنى الفكر الليبرالي العربي رؤيته على فرضيات أولية تعتبر الواقع العربي واقعًا متأخرًا عن مسارات العصر وأن الحل يكمن في تبني النموذج الأوروبي باعتباره يقوم على الحداثة وبرغم أن الصوت الليبرالي خفت في وقت سابق بسبب هيمنة الفكر القومي على الساحة السياسية والفكرية في العالم العربي والذي حمل رؤية مغايرة ومتحدية للطرح الليبرالي.. حيث بنى أطروحاته على التحرر من الاستعمار وبناء الواقع الوطني على أساس قومي مؤكدًا على مفهوم الوحدة القومية وحضور الشخصية العربية حضورًا تاريخيًا وارتبط مفهوم النهضة في ذهنه بالمشروع القومي.
إلا أن الليبرالية لم تختفِ من المشهد تمامًا بل ظلت مرتبطة بالتحولات والعولمة والحداثة الفكرية والثقافية وإخضاع التراث والقيم الأخلاقية للنقد المؤسس على العقلانية.
الا أن المفكر العربي أحيانًا يرسم صورة مغايرة للمذاهب الفكرية عن طريق التأويل فبحسب المفكر حسين معلوم فالليبراليون العرب أولوا أفكارًا غير ليبرالية تأويلًا ليبراليًا كما فعلوا بالمذهب الماركسي وبالمدرسة الوجودية وبالفكر القومي مثلًا.. فقد كان كل مذهب يؤكد فكرة الحرية صالحًا للتبني بغض النظر عن أصوله ومراميه الفلسفية، فقد كان المهم عندهم هو إثبات الحرية في أي لغة كانت ولو على خط التبعية وبالذات ممن يدعون بحيازة فهم حصري وأحادي للوعي الحضاري .
فالعولمة والليبرالية الجديدة وإن كانت غايتها النهائية اقتصادية إلا أنها منظومة متكاملة ومتشابكة يرتبط فيها الجانب الاقتصادي مع الجانب السياسي، ويرتبطان معًا مع الجوانب الاجتماعية والثقافية، وإن كان الهدف المعلن يتمثل في إيجاد رؤية حضارية موحدة للإنسانية إلا أن الهدف الحقيقي في جوانبه الأخرى هو تحقيق مصالح القوى المهيمنة.
ولذلك بنى الفكر العربي رؤيته للتطور على افتراضات تستند إلى أن الواقع العربي المتشكل في التراث يعتبر واقعاً متخلفاً وأن الحل يكمن في تبني أي نموذج فكري خارج التراث، ولذلك جرب القومية، والماركسية والوجودية، والشيوعية فكل مذهب أو فكرة خارج التراث صالحة للتجريب في عرف الفكر العربي بغض النظر عن أصولها الفلسفية.
ولذلك ذابت شخصية المفكر العربي، أو تماهت مع مختلف التيارات التي اتخذت جانب المخاصمة مع التراث.
[وهو اختلال ناشئ من تصور منهزم للتوجه الحضاري لأمة كاملة أتتها الهزيمة من قبل من يفترض أنهم قادة الفكر] لننظر فيما يقوله الدكتور زكي نجيب محفوظ: هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته فالوصول إلى ثقافة علمية تقنية وصناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم وإنما بالاتجاه إلى أوروبا وأمريكا.
أو ما يقوله الدكتور طه حسين: إن الطريقة الحضارية واحدة فذة وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة.
أو ما يقوله سلامة موسى: فلنولِ وجوهنا شطر أوروبا ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها ونؤلف عائلاتنا على غرار عائلاتهم.
أو الدكتور هشام شرابي: التراث الذي ينبغي دراسته والحفاظ عليه والحفاظ على إنجازاته هو التراث الذي صنعته الأجيال الثلاثة أو الأربعة الماضية.
فهل هذا هو الفهم الصحيح لمعنى الاستقلال الحضاري.
فإذا ما نظرنا مثلاً إلى الليبرالية العربية واتخاذ الغرب نموذجاً مثاليًا لفكرة التقدم وتحديث الحياة، وفق التقاليد الليبرالية الأوروبية والتبني الكامل للفكر الذي تمثل أوروبا نموذجه. واعتباره أسياسيات المشروع النهضوي العربي هذا يعني تأكيد الالتزام بالمضي في الخط الثقافي الاستعماري وهو وسيلة للتبعية بلا تحفظ.
وهنا يردنا سؤال عن العلاقة المنهجية بين الفكر الليبرالي العربي والفكر الليبرالي الغربي.
فالليبرالية الغربية مرت بسلسلة مرحلية طويلة ابتداء من العلمانية، فالليبرالية، فالديمقراطية، إذ لا يمكن عزل تلك المراحل عن بعض، في حين أن الفكر العربي اختزل تلك المراحل التسلسلية وتمثلها.
ولذلك شكك بعض المفكرين في وجود ليبرالية عربية حقيقية ذات مشروع تأسيسي بنائي خصوصًا في الجانب الفكري فبصفة عامة لا يوجد فكر ليبرالي عربي متكامل.
فالقضايا التي يكثر طرقها في أدبيات الليبرالي العربي سواء عبر قنوات الإعلام أو شبكات الإنترنت أو المؤتمرات والندوات والفعاليات الفكرية والثقافية أو الكتاب والمقالة والرواية كثيرة ومتنوعة ومن بينها الحرية، ولذلك اندفع التيار الليبرالي دون تدقيق أو روية أو نقد وتمحيص بين ما يتفق وديانة المجتمع وثقافته، وما يتعارض منها فأعطى للحرية مفهومًا خاصًا به.
وإن كانت الليبرالية شوهت مفهوم الحرية عندما اختزلته في المعنى المادي الفردي المتحرر من جميع القيود التي تفرضها الأديان أو القيم المشتركة أو الضرورة المجتمعية، وإنما يكون القيد الوحيد لها، هو عدم انتهاك حرية الآخرين.