أشعر حقًا بالحيرة أمام أفراد من بني جلدتنا ممن يرفض تاريخه، تراثه، أصله، حتى لغته التي يتحدث بها! تراهم ينسلخون عن جذورهم بلا خجل لا وبل بكل فخر! كيف يكون شعور المرء حينما ينظر إلى نفسه في المرآة ويرى تلك الذات التي شُكلّت من جينات أجداده؟! كيف يتعامل مع اسمه واسم أبيه وجده؟! كيف يمجد من يعتبره أقل ذكاءً بل أن بعضهم يراه على أنه في أسفل سلم التطور الإنساني، لمن يؤمن بنظرية التطور!

قد أتفهم من يغير من مظهره الخارجي ويتخلى أن اسمه ولغته، بل يعمل جاهدًا ليتقن لغة الآخر، فقط حتى يستطيع أن يندمج ويحصل على حياة أفضل في مجتمع متفتح بالظاهر لكنه ما زال عنصري حتى النخاع، ولكن... كيف أفسر ظاهرة من يعيش بين أهله وناسه، بين قومه ويشعر بالازدراء نحوهم بل لا ينفك من إطلاق عبارات السخرية والتقليل منهم! كيف أفسر نفسية من يجهد نفسه في البحث عن السلبيات في تراثه وتاريخه، ولا يشعر بالارتياح إلى بعد أن ينسخها ويستخدمها كأدلة على تخلف أمته؟! هل تاريخ كل أمة، أي أمة، كله سلبيات أو كله إيجابيات؟! عندما نرتدي النظارات السوداء ونبدأ بالبحث والتشريح، سنرى ماذا؟ الورود مثلًا؟!

يعد التراث والثقافة والتاريخ مكونات أساسية للفرد ويلعب كل منهم دورًا مهمًا في تشكيل هويتنا اليوم. إنه ما يوفر لنا شعورًا بالانتماء والفخر والارتباط بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ولكن للأسف، نجد أن العديد من الأفراد والجماعات يقللون من شأن تراثهم وثقافتهم وتاريخهم أو يرفضونه كليةً! قد يرجع ذلك في كثير من الأحيان إلى نقص في المعرفة أو التركيز على المعلومات المتحيزة، والتي بالتأكيد لم تبنى على الموضوعية والمنهجية العلمية، وهذا الموقف لا يضر باحترام الذات والثقة فحسب، بل يعيق أيضًا قدرتنا على احتضان ثقافتنا الغنية والاحتفال بها بشكل كامل.

إن التقليل من تراث الفرد وثقافته وتاريخه هو قضية منتشرة تؤثر على الأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم، ومن يتابع تاريخ أمريكا الاجتماعي سوف يجد الكثير من القصص الخاصة بأصحاب العرق الأسود أو اللاتيني، والتي تظهر دخول هؤلاء عالم البيض والتخلي عن ماضيهم والتنكر لبقية حياتهم، فقط من أجل التمتع بالحياة الكريمة، ولكنهم بالرغم من ذلك عاشوا تعساء!

للأسف يفترض خطأَ الكثير من الناس، ممن يخجلون من أصولهم، أن خلفيتهم الثقافية غير مهمة أو غير ذات صلة، في حين أنها في الواقع تحمل قيمة كبيرة وتسهم بشكل كبير في النسيج الغني للتجربة الإنسانية؛ هناك عدة عوامل تسهم في هذه الظاهرة، وأحد العوامل الرئيسة هو عدم القدرة على الوصول إلى معلومات دقيقة وشاملة حول ثقافة الشخص وتاريخه وهويته، ويمكن أن يرجع ذلك إلى مجموعة متنوعة من الأسباب، مثل محدودية الموارد التعليمية، أو الكتب المدرسية، أو وسائل التواصل الاجتماعي المتحيزة، أو غياب التمثيل المتنوع في الفنون المنتشرة خاصة الدراما، ونتيجة لذلك، قد يتشكل لدى الأفراد انطباعات غير دقيقة أو غير مكتملة عن خلفيتهم الثقافية، مما يدفعهم إلى التقليل من أهميتها.

والعامل الآخر هو تأثير القوى الخارجية التي تسعى إلى تقويض قيمة بعض الثقافات وتاريخها؛ فقد أدت العنصرية المنهجية والاستعمار وغير ذلك من أشكال الاضطهاد في بعض الدول إلى قمع ثقافات السكان الأصليين وتاريخهم، مما ترك العديد من الناس دون فهم واضح لتراثهم، بالإضافة إلى ذلك، أدى الترويج للمثل والنظريات الأوروبية المتحيزة، وتمجيد الحضارة الغربية بكل منتجاتها الفكرية والثقافية والفنية، إلى تهميش الثقافات والتاريخ غير الغربي، مما يعزز فكرة أن مجموعات معينة أقل قيمة أو أهمية.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن الوصمة المتحيزة سلبيا المحيطة بالهوية الثقافية والعرقية يمكن أن تسهم أيضًا في التقليل من تراث الفرد، فقد يشعر الأفراد بالخجل أو الإحراج بسبب خلفيتهم الثقافية، مما يدفعهم إلى التقليل من أهميتها أو إخفائها عن الآخرين، أو حتى الاتجاه إلى رفضها ومعاداتها!

من الأهمية بمكان أن نتحدى التحيزات وأوجه عدم الدقة التي تحيط بثقافتنا وتاريخنا وتراثنا، ويتعين على المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام وصناع السياسات أن يتحملوا مسؤولية تقديم صور دقيقة وواضحة للثقافة المحلية مقارنة بالثقافات الأخرى، ليس لتبيان الاختلاف بل للتركيز على التكامل في بناء تاريخ البشرية، ولكن بنفس الوقت ومن خلال تعزيز قدر أكبر من الوعي والفهم، يمكننا مكافحة المعلومات المغلوطة والدخيلة على الوعي الجمعي المرتبطة بالهوية الثقافية والعرقية.

وفي نهاية المطاف، إن التقليل من تراث الفرد وثقافته وتاريخه وكره ذاته أو معاداتها، قضية معقدة تتطلب حلاً متعدد الأوجه، فمن خلال العمل معًا لفتح أقنية حوار مفتوح وشفاف مع الرافضين أو المتنصلين من أصلهم قد نصل إلى جذور المشكلة؛ قد يكون جهل، أو غضب، أو شعور بالنقص أو غير ذلك، المهم أن نتمكن من أن نتعرف على النبع الذي يغذي كل نوع من أنواع المشكلة، فنحن لا نريد أن نتركهم يغرقون، فمن يعيش بلا هوية يحتاج منا أن نفهمه لا أن نقصيه أو نعاديه، المسألة ليست صعبة لأنه لو أردنا سنجد بالتأكيد الطرق التي سوف تمكننا من أن نخلق بيئة يستطيع فيها كل فرد أن يشعر بالفخر بخلفيته الثقافية وهويته، فقد يشكل لا سمح الله خطرًا على بلده، أو يكون أداة في يد من يضمر شرًا لها، لأنه لو فكرنا قليلًا سنجد أن أقل الأضرار هو على ذاته وأكبرها على محيطه.