عِلما التفسير والتحليل من أهم العلوم المدروسة والمطبقة في الحياة الاجتماعية والعلمية، وهما من أمتع الجوانب الإنسانية في بناء وتعزيز وتنمية مهارتي البحث والاطلاع؛ وذلك لوجود التحدي الذاتي، والسعي والمقارنة واستخراج المعلومات وبناء المعرفة، كما أن هذين العلمين يمثلان أهم الطرق والأدوات في حل الألغاز والمشاكل أو عند تحليل المواقف المعينة في شتى المجالات، فالإنسان يجد في لذة الغموض بحرا عميقا من الأسئلة، فيكون هذا الطريق جذابًا ممتعًا حين يسعى خلف الحروف غير المنطوقة والإجابات الصامتة والإبحار في معرفة جميع التفاصيل غير الواضحة، ومن خلال تحليل لغة الجسد والكلام المقصود وغير المقصود وفك الشفرات والأجوبة الغامضة، وصولاً للاستنتاج المنطقي والعلمي، لذلك فهذا يمثل تحدياً ذاتياً عميقاً من الممكن أن نرمز له بالفضول العقلي المرهق؛ نتيجةً للتفسير والتحليل المستمر.

وفي السياق ذاته، في ظل دوامة التفسير والبحث والتحليل، قد تختلف الأسباب من شخصٍ لآخر، إما أن تكون أسباباً علميةً أو نفسيةً، ولكن متى يكون للذة التفسير والتحليل وجه آخر؟ عندما يتحول إلى الإفراط والدخول في دوامةٍ ليس لها بداية ولا نهاية، وأن تظلم نفسك بتحليل كل ما يدور حولك من مشاكل ومواقف أو حوارات، وهذا عمل غير منطقي وغير صحي؛ بأن يتم تحليل صغائر الأمور وكبائرها معًا بشكل مفرط ودائم؛ فالحياة ليست بهذا السوء ليتم التعامل معها بشكل حذر قد يدخل في دوامة الأسئلة غير المنطقية والشك والارتياب الدائم من الحوارات والمواقف الاجتماعية والأسباب العاطفية والنفسية، وهذا لا يعني أبدًا بأن نكون مُتغافلين أو غير مُبالين للتفاصيل والأحداث والوقائع المتنوعة في حياتنا وعوالمنا، ولكن ليس بهذا الإفراط الذي يؤدي إلى الانشغال الذهني واسترجاع الحوارات الماضية أو توقع المستقبل أو توقع الأسواء دائما، في محاولةٍ لإيجادِ حلولٍ وأجوبهٍ في أي موضوع مهم وغير مهم؛ لأن ذلك إن زادَ عن الحد الطبيعي قد يتحول إلى عملية ذهنية ونفسية سيئة وخارجة عن إرادة صاحبها، وقد تؤدي به إلى مآلات لم تكن بحسبانه.

وعليه فإنَّ الاكتراث بالتفسير والتحليل النفسي هو نزعة البحث عن الكمال بتقييم الأفكار وتحليلها لتجنب الوقوع بالأخطاء و الفشل أو مراجعة القرارات بشكل مفرط، وهذا بالتأكيد هو من أهم أسباب عدم الثقة بالنفس أو تدني احترام الذات، وقد يتحول إلى شك دائم و إطلاق الأحكام والتقييم المبكر لكل ما يحدث أمام صاحبه، أو كوسيلةٍ دفاعيّةٍ عن النفس للهروب من المخاطر المُحتملة أو النتائج السلبية والاستعداد لها، وهذا ما يؤدي إلى حلقة مفرغة من الإفراط والتردد والشك الذاتي، فضرورة تحديد المواضيع التي يتم تحليلها والتعامل معها على أن تكون ذات أهمية بالغة، وأن تكون قيمتها عالية، إضافةً إلى الأشخاص حين تقوم بعملية تحليل وتفسير شخصيته أو تصرفاته غير الواضحة بالنسبة لك؛ فليس الجميع بذات الأهمية بأن يستوطن عقلك النشيط بكثرة التحليل والاستنتاج، فالبعض لا يستحق عناء السؤال والتركيز، حيث قد نجد في حلول مسائل الرياضيات بعض الصعوبة في الحل والتعقيد مع استنزافٍ للجهد والوقت، وبعد كل هذا العناء قد يكون الناتج صفرا لا قيمة له، وقد ذكر جلال قفيشة بقوله: «الوعي العميق بالحقائق والتدقيق الطويل بتفسير الأحداث وتحليل التفاصيل مأساة حقيقية نتيجتها الطبيعية كآبة مزمنة تليها تعاسة أبدية».


لذلك فالتحليل أمر عظيم، ولكن الإفراط بالتدقيق قد يصل إلى التشوه المعرفي بسبب التهويل والتعميم؛ على أن الناتج من هذا الجهد سيكون حضور القلق النفسي والذهني وعدم الراحة عند مخالطة المحيط الاجتماعي، وقد يصل إلى مرحلة عنيدة يصعب السيطرة عليها، يصاحبها القلق من اتخاذ القرارات أياً كان مجالها أو موضوعها، فضلاً عن سلبية الحديث النفسي الذي يصاحبه نقد الذات المستمر أو الحكم والهجوم على النفس أو على الآخرين بقسوة وظلم، وبات التركيز على العيوب والأخطاء السمة الحاضرة في العقل والسلوك. يقول ويليام شكسبير: «التدقيق في أتفه التصرفات قد يهوي بك إلى الجنون لذا تغافل مرة وتغابى مرتين». لذلك فإنَّ التحليل والتدقيق الزائد غير المنطقي قد يؤدي في نهاية الأمر إلى الظلم والانعزال الاجتماعي وضياع الفرص، ويصبح صاحبه مقيدًا في دوائر البحث والاستفسار بين: لماذا، وكيف، وهل؟، ومع هذه الأسئلة التحليلية، فمن الصعب أن يبدأ صاحبها شيئًا جديدًا في حياته أو يمنح ثقته لأي شخص يتعامل معه؛ لأنه تحت تأثير التفسير المستمر، الذي أفقده التركيز والثقة وبناء العقل وتنمية الذات، وبالتالي تضعف قدراته الإبداعية والتركيز في البحث والتحليل الاجتماعي والعلمي بشكل منطقي في هذه الحياة.