أما تجربتي الخاصة في مجال ممارسة فعل الحرية وفعل الإبداع، فقد انتهت بما انتهت إليه تجربة ذلك الرجل الذي حاول إخراج الناس من كهف أفلاطون الفلسفي إلى نور الشمس: «فلو قيض لهم أن يضعوا أيديهم على الرجل الذي حاول فك قيودهم ودفعهم نحو الأعلى واستطاعوا قتله، أما كانوا قتلوه؟ من المؤكد أنهم كانوا قتلوه»!

ولكنهم أعجز من أن يقتلوني. أما أنا فقد بلغت من العمر ما جعلني أردد قول المتنبي:

رماني الدهر بالأرزاء حتى


فؤادي في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهام

تكسرت النصال على النصال!

لقد وجدت في ثورة جورباتشوف الفكرية- السياسية حلاً للعقدة الأخلاقية التي سكنتني باطنياً طول حياتي الواعية وأصابتني بداء تأنيب الضمير فأسكته بالالتجاء إلى الإبداع الأدبي. أعني قوله إنه «آن الأوان لإنهاء البون الشاسع الذي يفصل السياسة عن الأخلاق». كنت أعطيت ملكة الإبداع الفني التي تتميز بالقدرة على التعبير عن الصدق المطلق، فالتجأت إليها كلما أثقلت ضميري الميكيافيللية السياسية. فأزعم أنه ما من مبدع أصيل إلا كان مؤهلاً لاحتضان ثورة جورباتشوف هذه التي فجرت «الانفجار الديمقراطي الكبير» ذلك المؤهل لخلق كون جديد. ولا ألوم، على استمرار الغشاوة، أولئك الناس الثوريين الطيبين الذين سرنا وإياهم، وتربينا وإياهم، طول العمر على طريق إخضاع كل العلاقات الاجتماعية والشخصية لما اعتقدناه أنه «مصلحة الثورة» و«مصلحة حزب الثورة». ولكنني ألوم قياداتهم التي تتكاسل عن تحريك أجنحتها المصابة بالشلل من طول الإهمال.

إنني أشبه حالنا، الآن، بجماعة من الطير عاشت منذ مولدها في داخل قفص. وجاء يوم سقط فيه باب القفص جراء تراكم الخلل أو الصدأ فيه، فانفتح. فخرجت جماعة الطير هذه إلى الفضاء الرحب لأول مرة.

فكانت، في تصرفها التالي، فريقين: فريقاً أدرك أنه ما من بد أمامه سوى أن يحرك جناحيه المشلولين من طول الإهمال، وأن يطير في أجواء الفضاء وأن يتعود على الحياة الجديدة الواسعة. وفريقاً تكاسل عن تحريك جناحيه وتعود على حياة العزلة في القفص فآثر القعود في انتظار العودة إلى القفص. ومأساة هذا الفريق الخاصة أنه، حين عاد إلى القفص، لم يجد القفص لأن القفص قد زال من الوجود. وأعرف بعض زملاء عمري ممن لا يزال يحلم بظهور القفص من جديد. وبعضهم يتنبأ بأنه سيظهر بعد خمس سنين. وبعضهم يتنبأ له بعشر سنين.

يقيناً أنه لم يكن لي، ولأمثالي، أي ضلع في ما حدث من انهيارات مذهلة في عالم اعتبرناه قمة «المدينة الفاضلة» في عصرنا، ولكن «تأنيب الضمير الإبداعي»، الذي سكننا طول حياتنا، جعلنا مؤهلين لاحتضان «الانفجار الديمقراطي الكبير». فماذا فعل صحبي وخلاني؟ تصرفوا معنا تصرف ركاب سفينة في قديم الزمان هبت عليها العواصف المغرقة. فقرروا أن واحداً منهم هو سبب هذه العواصف. ولن تهدأ ولن تسلم السفينة من الغرق إلا إذا ألقوا به في البحر. فاختاروا من بينهم شيخاً يتلألاً في عينيه نور المعرفة الذي صفحوه سحراً شيطانياً. فألقوا به عن ظهر السفينة إلى البحر.

ولكنه لم يغرق ولا العواصف هدأت. فماذا فعل صحبي وخلاني؟ ألقوه في اليم، عنوة، ثم اتهموه بأنه

فر من السفينة خوفاً من أن يغرق معها!

ولكنه، مثله مثل كل مبدع أصيل، يحمل هم شعبه ومصير شعبه. فيأبى أن يغرق مع هذا الحمل الثمين فوق سفينة قذفتها أمواج التجربة التاريخية نحو صخور الشاطئ محطمة. الموت المجاني ليس شهادة. أما هو فيظل يستشهد بقول رفيقه الشهيد عبدالرحيم محمود:

«فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدا».

وتعلمنا التجربة، هنا في بلادنا، أن العدا يتمنون لنا أن نموت غرقى مع السفينة الغرقى. فهذا هو الموت الذي يسرهم ويساعدوننا على اقترافه.

1991*

* روائي وصحفي فلسطيني «1921 - 1996»