الأنوية هي شعور الإنسان بذاته، أي بالأنا، وهذا الشعور ليس آتيا من فراغ، بل هو مرتبط بالشعور بغيره، فليس في مقدور الإنسان أن بشعر بذاته ما لم يتصور شخصاً أو أشخاصاً ينظرون إليه ويقيمونه. فالأنا

«والغير» متلازمان أو هما وجهان لشيء واحد.

إن الأنا محور الشخصية البشرية - كما أشرنا إليه أنفا، فكل إنسان إذا شعر بالأنا يرغب في ارتفاع مكانتها في نظر الأخرين. إن الانسان بعد أن يشبع حاجاته الضرورية، من مأكل وملبس ومسكَن، يأخذ بالتطلع نحو نيل المكانة العالية في مجتمعه، وهو لا يقف عند حد في ذلك، فكلما نال مكانة عالية تطلع إلى مكانة أعلى منها، فهو في كفاح مستمر لا يهدأ ولا يفتر حتى يدركه الموت، فيستريح ويريح!


إن الأنوية يمكن اعتبارها أهم العوامل التي جعلت الإنسان حيواناً اجتماعياً. وقد أخطأ الفلاسفة القدامى حين قالوا: إن النزعة الاجتماعية غريزية في الإنسان، ومن هنا شاعت بينهم مقولة إن الانسان اجتماعي بطبعه. وقد اتضح الآن علمياً خطأ هذه المقولة. فالإنسان الذي ينشأ بين الحيوانات منذ طفولته يصبح حيواناً مثلها. وقد عثر على أفراد من هذا النوع غير قليلين كما هو مدون في المصادر العلمية.

إن الغريزة الاجتماعية لا تظهر إلا في بعض الحشرات كالنحل والنمل، فالنحلة مثلاً تتعاون مع مجتمعها وتخدمه تحت تأثير دافع غريزي فطري.

فهي حين تبني الخلية وتجمع العسل إنما تتحرك كالآلة المهيأة من دون وعي أو اختيار أو إرادة، وإذا وقف مانع في طريق عملها شعرت بالتوتر وأخذت تكافح من أجل إتمام عملها بكل جهدها.

أما الإنسان فيختلف عن النحلة. فهو كما قلنا ليست لديه غريزة تدفعه نحو خدمة مجتمعه، بل هو يندفع في نشاطه الاجتماعي تحت تأثير شعوره بالأنا، إذ هو يريد أن ترتفع مكانته في نظر الآخرين، وهو لذلك يسعى نحو أي هدف يُكسبه تقدير الآخرين ويجنبه احتقارهم. وبعبارة أخرى، إن النحلة حين تخدم

مجتمعها لا تبالي بتقدير أبناء نوعها لها، بل هي تسير في عملها كالآلة الصمَاء. أما الإنسان فهو حين يخدم أفراد مجتمعه إنما يطلب تقديرهم ونيل المكانة العالية بينهم، أو هو على الأقل يتجنب ما يؤدي إلى انخفاض مكانته بينهم.

كان العرب قديماً يصفون صاحب المكانة العالية بأنه (يُشار إليه بالبنان). ومعنى ذلك أنه صار ذائع الصيت والمكانة، بحيث أخذ الناس يشيرون إليه عند مروره بهم. إن هذا في الواقع هو ما يطمح إليه كل إنسان في جميع المجتمعات البشرية، ولكن الرمز يختلف من مجتمع إلى آخر. ففي المجتمعات المتقدمة لم يعد الإنسان يكتفي بأن يشير الناس إليه عند مروره بهم، بل هو صار يطلب الجاه بوسائل أخرى، هي الوسائل التي أبدعتها الحضارة الحديثة كالصحافة والإذاعة والتلفزة وغيرها.

1988*

* عالم اجتماع عراقي «1913- 1995».