هذه الجهود التي تأتي في وقت حرج يواجه فيه العالم موجة من الجفاف نتيجة لانخفاض مناسيب بعض الأنهار ونضوب العديد من مصادر ومساقط المياه تكتسب أهمية كبرى حيث تتكامل مع الجهود المتواصلة التي تقودها المملكة لتعزيز قضايا الاستدامة والاهتمام بقضايا المناخ والبيئة، والتي أصبحت التحدي الأول الذي يواجهنا حالي، وهو ما يتطلب مضاعفة السعي وراء ابتكار الحلول التقنية لهذه المشكلات التي تهدد استمرار الحياة على كوكب الأرض.
وللدلالة على اهتمام المملكة بالتصدي لسوء استخدام الإنسان للموارد الطبيعية وتسبّبه في العديد من المشكلات المرتبطة بذلك مثل قضية الاحتباس الحراري التي باتت في أيامنا هذه أوضح ما تكون، فقد تكفّلت الرياض بتقديم تمويلات تجاوزت 6 مليارات دولار لدول في 4 قارات حول العالم لإيجاد حلول ناجعة وحاسمة لمشكلات تتعلق بمشاريع المياه والصرف الصحي، وذلك لأنها تدرك أن العالم يتشارك في مواجهة الكثير من المشكلات التي تواجه بعض مناطقه.
ولأن توفر المياه الصالحة للشرب يمثّل شرطا أساسيا لاستمرار الحياة، فقد اهتمت جميع المنظمات الدولية بوضع التشريعات الضرورية التي تلزم الدول والحكومات بتوفيرها لمواطنيها، ففي 28 يوليو 2010، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تاريخياً يعترف «بالحق في مياه الشرب المأمونة والنظيفة وخدمات الصرف الصحي كحق من حقوق الإنسان الأساسية للتمتع الكامل بالحياة وكافة حقوق الإنسان»، وذلك استنادًا إلى الحق في مستوى معيشي مناسب بموجب المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد أنشأت السعودية منذ وقت مبكر منظومة متكاملة من قنوات الصرف الصحي، وتبذل جهودًا كبيرة لتوفير مياه الشرب لموطنيها، وتتحمّل في سبيل ذلك مبالغ طائلة بسبب ترامي مساحة أراضيها الشاسعة وارتفاع التكلفة الناتجة عن تحلية مياه البحر. وللتأكيد على تلك الحقيقة يكفي القول إن المملكة هي أكبر منتج مياه محلاة في العالم بسعة إنتاجية تتجاوز 6.600 ملايين متر مكعب وهو ما يؤهل المؤسسة العامة لتحلية المياه لأن تكون بيت خبرة عالمي مؤهل للاستثمار في مجال التحلية.
إلا أن كل ذلك لم يمنعها من مساعدة العديد من دول العالم لإيجاد حلول لهذه المشكلة المستعصية. لذلك قامت بتقديم تمويل لكثير من الدول في مختلف أنحاء العالم. ولم تقتصر الجهود السعودية على الجانب الحكومي فقط، بل إن الكثير من المؤسسات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني مثل رابطة العالم الإسلامي، وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي أسهمت في ذلك الجهد وقامت بحفر عشرات الآلاف من الآبار في كثير من دول العالم، لا سيما في أفريقيا، كما شارك كثير من رجال الأعمال والخيّرين في تلك الجهود، وبذلك منحوا تلك المجتمعات الأكثر احتياجا مبررات البقاء وأسباب التطور.
هذا الجهد المتواصل يأتي إنطلاقًا من تعاليم الدين الإسلامي التي تحض على توفير المياه للمحتاجين، وتضع ذلك في مقدمة أوجه البر التي دعا إليه الشرع الحنيف، وذلك إدراكًا لأهمية المياه للإنسان والحيوان والزراعة وأنه أبرز مقومات الحياة وشروط الاستقرار.
وعودة سريعة لواقع الأمن المائي على الصعيد المحلي توضح أن طول امدادات المياه داخل السعودية يبلغ حوالي 10 الآف كيلو متر موزعة على جميع المناطق، بعضها يتم إمدادها بالمياه من الساحل الشرقي والبعض الآخر من الساحل الغربي. ولرفع الجاهزية للاستجابة لحالات الطوارئ على مستوى المملكة فإن هناك خطط طموحة لتنفيذ مشاريع الربط التكاملي لشبكات المياه لمواجهة المخاطر والتحديات.
ومما يلفت النظر أنه بالرغم من ارتفاع تكلفة تحلية المياه المالحة في السعودية فإن القيادة الحكيمة تحرص على تقديم هذه الخدمة لمواطنيها والمقيمين على أرضها برسوم زهيدة لا تكاد تذكر، لأن توفر المياه كما سبق قوله هو حق أساسي للإنسان.
أما ما يتعلق بقضية الاستدامة وترشيد استخدام المياه فقد نادت رؤية المملكة 2030 ضمن مستهدفاتها العديدة بخفض نسبة الاستهلاك المرتفعة، وذلك لأن بلادنا تأتي في مقدمة دول العالم في الاستهلاك اليومي للفرد حيث يبلغ في الوقت الحالي 278 لترًا في اليوم وتهدف الرؤية لتقليله حتى 150 لترًا.
ولأن الرؤية السعودية لقضايا العالم تقوم على أننا جميعًا شركاء في هذا الكوكب الذي يضمنا جميعًا بعد أن أصبح بفعل العولمة قرية صغيرة كما يقولون، فقد اتسعت نظرة قيادتنا لمشكلة المياه لتأخذ مفهومًا أكثر شمولية يقوم على ضرورة إيجاد حلول مشتركة، وهو ما يؤكد أن هذه القيادة الحكيمة قادرة على التفكير خارج الصندوق، وتسعى لإيجاد حلول تكاملية وغير تقليدية، وتعمل على توحيد الجهود الجماعية وتوجيهها نحو إيجاد حلول نهائية وعدم الاكتفاء بالمسكّنات والحلول الوقتية.
وأختم بالقول إن ما نشهده من مساع متواصلة لتعزيز حقوق الإنسان وجعلها جزءا من ثقافة المجتمع، واستكمال النهضة التشريعية التاريخية الحالية سيبقى هو الدافع الرئيسي لتطوير هذا المجتمع وتعزيز رفاهية أبنائه والأخذ بأيديهم نحو الأفضل وتعزيز مستوى معيشتهم.