عاد النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون إلى إطلاق التحذيرات من «المؤامرة الكونية» و«الإرهاب التكفيري» و«الرهاب الطائفي» مع تجدّد الاحتجاجات الشعبية واستمرارها في سورية، وشمولها معظم مناطق سيطرة النظام، وتلك الخارجة عن سيطرته.

ما يحدث كان متوقّعًا منذ لحظة إعلان بشار الأسد «انتصاره» في الحرب على مَن يفترض أنه شعبه، فسرعان ما تبيّن له وللموالين له، لأسبابهم المختلفة، أنه لا يستطيع ترجمة ذلك الانتصار بـ«تطبيع» الوضع الداخلي، ذاك أن الأزمة عادت إلى طبيعتها وحقيقتها، إذ كانت ولا تزال بين النظام وبين الشعب السوري، بمختلف انتماءاته الدينية والمذهبية والعرقية، وما كان مطلوبًا منه في 2011 زاد مئات الأضعاف وأكثر، بسبب تداعيات القتل والتهجير والتدمير على حياة الناس، موالين ومعارضين، أي على الاقتصاد والحالة المعيشية العادية، بل الأقل من العادية.

سكت مريدو النظام خلال الحرب على تجويعه مناطق المعارضة لمعاقبتها واقتلاع سكانها، لكن بلوغهم الآن ذروة الحرمان ومشارف العوز والجوع كان لا بدّ أن يرفع أصواتهم ضدّه، إذ لم يعد هناك أي مبرر لوجود نظام وسلطة عاجزين عن تأمين احتياجات المواطنين، ويصادران معظم الإغاثة الأممية لمصلحة الأجهزة وأثرياء الحرب؛ لذلك يجد أنصار النظام و«المحايدون» والمعارضون في الداخل قبل الخارج أنهم أصبحوا جميعًا، للمرة الأولى في تيار واحد، وإن اختلفت هواجسهم ربما ظنّوا لوهلة، خصوصًا الموالين، أن انتصار النظام بمؤازرة من الحلفاء الذين اصطفاهم لإنقاذه، يعني أن الروس والإيرانيين سيكملون «أفضالهم» على سورية وشعبها، وسيستثمرون في هذا «الانتصار» لإظهار نِعم الاعتماد عليهم، لكنهم استَبَقوا إنجازاتهم وأعقبوها بوضع أيديهم على ثروات سورية لاسترجاع ديونهم المتراكمة على الأسد،


بعد مهزلة مضاعفة الرواتب ورفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية، وما أدّت إليه من انهيار جديد لقيمة الليرة السورية، لم يكن مستغربًا أن ينفجر الغضب الشعبي، على رغم الخشية من سطوة القمع، ومن ردود الفعل الأمنية من جانب النظام. وحتى لم ترتفع شعارات وهتافات تطالب برحيل النظام فإن المعنى والمغزى كانا واضحين في هذا الاتجاه، إذ طفح الكيل ولم يعد هناك ما يستوجب السكوت على النظام ومفاسده، كذلك لم يكن مستغربًا أن تنطلق شرارة الاحتجاجات من السويداء، المحافظة التي التزمت شيئًا من الحياد طوال عقد ونيّف من الحرب إلى حدّ الامتناع عن إرسال أبنائها إلى الخدمة العسكرية، لئلّا يساهموا في قتل مواطنيهم، وقد حقد النظام على هذه المحافظة ذات الغالبية الدرزية، وحاصرها للحؤول دون أن يكون لها منفذ إلى درعا المجاورة أو إلى الأردن، وأرسل عصاباته، بمن فيها «الدواعش»، لاختراقها وترهيبها، وبث الفرقة داخل أتباع المذهب الواحد، ومع ذلك، استطاعت السويداء أن تطلق صرختها ضد النظام، وأن تشكّل ما يمكن اعتباره موجة جديدة مختلفة من انتفاضة الشعب على النظام.

تجربة الـ 12 عامًا القاسية استغلّها النظام في افتعال الانقسامات بين فئات الشعب، والاشتغال على المخاوف الأمنية والوجودية، كما شاركه حليفه الإيراني في تصنيع الإرهاب وهندسة التغيير الديموغرافي، ولا يزالان يعملان في هذين المجالين، غير أن وصول الخطر إلى سبل العيش وانعدام ملامح أي تغيير يطمئن إلى الحاضر والمستقبل انتزعًا من النظام كل أساليب التحايل، فهو ثري على رغم العقوبات والبلد مفلس بالعقوبات وبدونها، بل إن البلد فيه ثروات لكن روسيا وإيران صادرتها وبات الارتباط بهما جاذبًا لمزيد من المصاعب والعقوبات، ولم يصدر عنهما أي استعداد لمساعدة النظام في ورطته الحالية لأنهما أيضاً في ضائقة.

إذا لم تكن هذه هي اللحظة التي يخرج فيها النظام عن سياساته التي أفقرت الشعب فماذا ينتظر كي يتحرك؟ الواقع أنه لا يستطيع، حتى لو أراد، وهو على أي حال لا يريد.

هذا التقويم يأتي من ضباط قريبين للأسد، ويباشرون أعمالهم كالمعتاد، لكنهم يشعرون بأنهم محشورون في وضع لا يستطيعون تغييره، وبأن قناعاتهم لا تنفك تتشوّش أكثر فأكثر، ثم أنهم متذمّرون مما آلت إليه حالة النظام، ومتوجّسون من الوجهة التي تتخذها الأحداث، خصوصًا في البيئات الشعبية الحاضنة أو غير المعادية.

وفي الجلسات الخاصة لا يخفي كبارهم أن لديهم مآخذ كثيرة على رأس النظام، ويعترفون بأنهم لم يعودوا قادرين على الدفاع عن خياراته أو قرارات زوجته التي تتولّى إدارة الاقتصاد. وفيما أبدى هؤلاء الضباط في فترة سابقة تفهّمًا حذرًا وعلى مضض لاستحواذ الروس والإيرانيين على ولاء وحدات من قوات النظام، إلا أن أكثر ما يزعجهم أنهم في الفترة الأخيرة لمسوا أن استخبارات «الحرس الثوري الإيراني» و«حزب الله» الإيراني اللبناني تشدّد مراقبتها لهم ولأفراد عائلاتهم.

على رغم أن عدم وجود بدائل لدى المعارضة لا يزال نقصًا يعدّه النظام نقطة لمصلحته، إلا أن لديه خشية جدّية من انتفاضة دروز جبل العرب ومن تعاظم النقمة عليه في جبل العلويين والساحل، وهما بؤرتا الأقليات التي كان يقدّم نفسه دوليًا كحامٍ لها، والخشية الأكبر من أن يشكّل الجبلان نوعًا من الإجماع الوطني على ضرورة رحيله تطبيقًا لشعارَي «واحد واحد واحد/ الشعب السوري واحد» و«الشعب السوري ما بينذلّ»، اللذين أطلقتهما الثورة في بداياتها واستعادتهما التظاهرات الحالية، حتى في مجدل شمس في الجولان السوري المحتلّ. فالرسالة الأساسية التي بثّها هذا الحراك أن الحال الراهنة غير قابلة للاستمرار، والأهم أن الاعتقاد بأن تغييرًا يمكن أن يأتي من النظام نفسه ليس سوى أوهام،

بلى، لا يزال بإمكان النظام أن يفعل شيئًا، لا استجابةً للمطالب الاقتصادية وإنما لمحاولة كسر انتفاضة السويداء من داخلها.

لا يريد النظام ضرب بيئته الطائفية لئلا يُحدث فيها تصدّعات تصعب معالجتها، لكنه قد يستخدم تخريب حراك السويداء لقمع أهل الساحل وتأديبهم، لذا ينصت النظام مجدّدًا إلى «نصائح» الحليف الإيراني، كما فعل أواخر آذار (مارس) 2011، مع فارق أن إيران باتت لها الآن مصالح كبرى تريد الحفاظ عليها، وترى في أي تحدٍّ للنظام تحدّيُا مباشرًا لها، ثمة الكثير من المعلومات المتداولة عن خطط دخلت مرحلة التنفيذ، ويتعذّر تأكيدها، لكن ميليشيات إيران وإعلام «حزب إيران» اللبناني ومصادره تواصل توعّد السويداء والتحريض عليها بتُهم «الخيانة» و«العمالة» للولايات المتحدة وغيرها. وتفيد تلك الخطط بأن «الحرس» الإيراني حرّك بعضًا من ميليشياته وقوات سورية تعمل بإمرته لمهاجمة السويداء -بالزيّ «الداعشي»، تمهيدًا للعبث بحال التضامن الشعبي في السويداء وافتعال اقتتال بين أبنائها.. مع إظهار النظام كأنه بمنأى عما سيحصل!.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»