ما الذي يجعل شخصًا ما قادرًا على إقناع الآخرين بوجهة نظره حتى إن كانت لا تروق للكثيرين منهم، وهل الأمر يعتمد على مهارات الإقناع فقط.

القدرة على التأثير في الآخرين ليست مرتبطة بالمنصب الوظيفي أو الحالة الاجتماعية أو بسبب ضعف الآخرين، فالشخص المؤثر يستطيع فرض وجهة نظره حتى في بيئة شديدة التنافسية. ولعل أهم مهارات وقدرات الإقناع حاليًا ليست فيما نقوله ولكنها فيما لا نقوله. فعندما يحتدم النقاش وتكثر الآراء ويزداد الاختلاف، فإن أفضل من يسيطر على هذا الوضع هو الشخص الهادئ الصامت. ورغم أن الكثير من الذين ينتهجون الصمت يكونون غير مقنعين ويوصفون بالضعف والخوف من المواجهة، فإن هناك ما يسمى بقوة الصمت، وهو ذلك الصمت الذي لا يكون سلبيًا ولكن يغلبه التفكير والتدبر والاستماع لما يقوله الآخرون.

جميعنا لديه مهارة الإقناع بالحجة والقدرة على الجدل، ولكن الجدل ومحاولة فرض الرأي قد لا تقنع الكثيرين بتغيير آرائهم والتخلي عن أفكارهم. بل يمكن لمهارات الجدل أن تجعل الآخرين أكثر عنادًا وتمسكًا بآرائهم حتى لو كانت غير صحيحة. منذ مراحل الطفولة ونحن نتعلم أن الصمت دليل على الضعف، ولكن الحقيقة الصمت يعلمنا الكثير لا سيما تفسير المعاني الخفية التي يطلقها المتكلمون. فمعظم من يطلق العنان لكلماته قد يتعمد إخفاء الكثير من المعاني والتلميحات بينها، وهي أمور لن نفهمها ونصل إليها إلا بالصمت والتفكير العميق في تلك الكلمات.

الصمت أمام المتحدثين والمتجادلين، يجعلنا نعرف ما يضمرون من قضايا وما يخفون من أجندات لا يريدون للآخرين الاطلاع عليها. بل إنه من خلال الصمت يمكن معرفة الآراء المخالفة والتي لا يقوى أصحابها على البوح بها جهرًا.

الصمت يجعلنا نستمع بشكل مثالي لكل تلك الجمل والكلمات التي لا تقال علنا، فنستشعر المعاني الضمنية لكل خطاب ونعرف موقف الطرف الآخر وماذا يريد. إن تلك الرغبات المختبئة خلف ضوضاء الجدل والخلاف يمكن التعرف عليها من خلال الصمت العاقل والمتفكر فيما يقوله الآخرون. وبعد ذلك الصمت والاستماع الفاعل فإن ردة الفعل وإبداء وجهة النظر ستكون حكيمة وعاقلة ومقنعة للآخرين، لاسيما وقد ملأت ذلك الفراغ الذي لم يستطع الآخرون قوله، وأشبعت فضولهم ورغباتهم.

الصمت مفيد في التعرف على رؤية الآخرين وأفكارهم ومعتقداتهم، بل قد يكون مفيدًا في توطيد العلاقات والمصالح مع الرأي المخالف، لا سيما والصمت يخفف حدة النقاش ويقلل الجدل. الصمت المفيد ليس لعبة أو حيلة أو محاولة لاستغفال الآخرين، ولكنه مهارة من تلك المهارات التي يجب اكتسابها من أجل معرفة الآخرين وكسب ثقتهم والتعاون البناء معهم لتحقيق الأهداف والنجاح. يقول الفيلسوف الصيني لاو تسو (أفضل قائد هم من لا يحس الآخرون بوجوده فإذا أنجز عمله وتحقق هدفه يقولون لقد حققنا ذلك بأنفسنا)، أما حكيمنا العربي فقد قال (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب).