- من المؤكد أنهم كانوا قتلوه»!
ولكنهم أعجز من أن يقتلوني.
أما أنا فقد بلغت من العمر ما جعلني أردد قول المتنبي:
«رماني الدهـر بـالأرزاء
حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال»!
لقد وجدت فى ثورة جورباتشوف الفكرية - السياسية حلًا للعقدة الأخلاقية التي سكنتني باطنيًا طوال حياتي الواعية وأصابتني بداء تأنيب الضمير فأسكته بالالتجاء إلى الإبداع الأدبي، أعني قوله إنه آن الأوان لإنهاء البون الشاسع الذي يفصل السياسة عن الأخلاق كنت أعطيت ملكة الإبداع الفني، التي تتميز بالقدرة على التعبير عن الصدق المطلق، فالتجأت إليها كلما أثقلت ضميرى الميكيافيللية السياسية فأزعم أنه ما من مبدع أصيل إلا كان مؤهلًا لاحتضان ثورة جورباتشوف هذه التي فجرت «الانفجار الديمقراطي الكبير» ذلك المؤهل لخلق كون جديد. ولا ألوم، على استمرار الغشاوة، أولئك الناس الثوريين الطيبين الذين سرنا وإياهم، وتربينا وإياهم، طول العمر على طريق إخضاع كل العلاقات الاجتماعية والشخصية لما اعتقدناه أنه (مصلحة الثورة) ولكننى ألوم قياداتهم التي تتكاسل عن تحريك أجنحتها المصابة بالشلل من طول الإهمال.
إنني أشبه حالنا، الآن، بجماعة من الطير عاشت منذ مولدها في داخل قفص، وجاء يوم سقط فيه باب القفص جراء تراكم الخلل أو الصدأ فيه، فانفتح. فخرجت جماعة الطير هذه إلى الفضاء الرحب لأول مرة. فكانت، في تصرفها التالي، فريقين: فريقًا أدرك أنه ما من بد أمامه سوى أن يحرك جناحيه، المشلولين من طول الإهمال، وأن يطير في أجواء الفضاء وأن يتعود على الحياة الجديدة الواسعة. وفريقًا تكاسل عن تحريك جناحيه وتعود على حياة العزلة في القفص فأثر القعود في انتظار العودة إلى القفص. ومأساة هذا الفريق الخاصة أنه، حين عاد إلى القفص، لم يجد القفص لأن القفص قد زال من الوجود. وأعرف بعض زملاء عمري ممن لا يزال يحلم بظهور القفص من جديد. وبعضهم يتنبأ بأنه سيظهر بعد خمس سنين. وبعضهم يتنبأ له بعشر سنين.
يقينًا أنه لم يكن لي، ولأمثالي، أي ضلع في ما حدث من انهيارات مذهلة في عالم اعتبرناه قمة والمدينة الفاضلة، في عصرنا، ولكن تأنيب الضمير الإبداعي، الذي سكننا طول حياتنا، جعلنا مؤهلين لاحتضان «الانفجار الديمقراطي الكبير». فماذا فعل صحبي وخلاني؟ تصرفوا معنا تصرف ركاب سفينة في قديم الزمان هبت عليها العواصف المغرقة. فقرروا أن واحدًا منهم هو سبب هذه العواصف. ولن تهدأ ولن تسلم السفينة من الغرق إلا إذا ألقوا به في البحر. فاختاروا من بينهم. شيخًا يتلألأ في عينيه نور المعرفة الذي صفحوه سحرًا شيطانيًا، فألقوا به عن ظهر السفينة إلى البحر.
ولكنه لم يغرق ولا العواصف هدأت. فماذا فعل صحبي وخلاني؟ ألقوه في اليم، عنوة، ثم اتهموه بأنه فر من السفينة خوفًا من أن يغرق معها!
ولكنه، مثله مثل كل مبدع أصيل، يحمل هم شعبه ومصير شعبه. فيأبى أن يغرق مع هذا الحمل الثمين فوق سفينة قذفتها أمواج التجربة التاريخية نحو صخور الشاطيء محطمة. الموت المجاني ليس شهادة. أما هو فيظل يستشهد بقول رفيقه الشهيد عبدالرحيم محمود:
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العداء.
وتعلمنا التجربة، هنا في بلادنا، أن العدا يتمنون لنا أن نموت غرقى مع السفينة الغرقى. فهذا هو الموت الذي يسرهم ويساعدوننا على اقترافه.
لست واحدًا من محتسبى ماضينا النضالي العسير على أنه خطأ أو أنه ذهب هباء. بل أنا واحد من أولئك الذين ينظرون نظرة منفتحة ومتفائلة نحو مساعى إقامة النظام العالمى الجديد على اعتبار أن ماضينا النضالي المشرف لم يذهب هباء بل أسهم في انفتاح مجتمعنا وعالمنا على ضرورة نظام عالى جديد يخلف نظام الحرب الباردة القديم الذي جر علينا وعلى شعوبنا المآسي والويلات. أما الذين لا يرون في المستقبل إلا السواد وإلا الرجعة إلى عهود الغاب فهم هم - لا سواهم - من ينطلق من الاعتقاد الضمني بأن تضحياتنا ذهبت هباء. قد نكون دفعنا أغلى ثمن. ولكن، لماذا يقررون أن مصير تجارتنا مصير وتجارة جحا بالبيض؟!
لقد وجدتني في روايتي الأخيرة - (خرافية سرايا بنت الغول) - أحاول، عبثًا، أن أكتفي بحمل بطيخة واحدة، بطيخة الإبداع الأدبي، باليد الواحدة. وجدت صاحبي يتساءل:
«هل نقبل عذرًا لشجرة أجاص أثمرت باذنجانًا أنها توفر للفقراء لحم الفقراء»؟
ولو أهمل غیري سرایاه، مثلما أهملت سرایاي؟، هل بقي على هذا الكوكب سوى الذئاب والضباع والماعز وحمالي الأشرطة وآكلي لحوم إخوتهم وأخواتهم، حتى ينتهوا من أكل لحومهم، والمختبئين في مغائر الماضي خوفًا من خوف كهانهم من أن يعجزوا عن التنفس في عالم خال من الجراثيم؟
1992*
* روائي وصحافي فلسطيني «1921 - 1996».