وفي لعبة الفيديو (Returnal) الحائزة على جائزة أفضل لعبة في حفل الأكاديمية البريطانية، تتعرض بطلة اللعبة ورائدة الفضاء (Selene) لموقف الجندي المتقاعد نفسه في فيلم (Boss Level)، حيث تجد نفسها محاصرة في حلقة زمنية متكررة بصورة تجلب اليأس، بعد تحطم مركبتها الفضائية على كوكب (Atropos)، تكتشف سيلين أنها في كل مرة تموت فيها تعود للبداية وللحظة تحطم مركبتها الفضائية، وهكذا يتكرر المشهد حتى ينتابها شعور بعبثية وجودها على كوكب (Atropos)، فهي تقاتل الوحوش والأعداء ثم تموت وتعود مجددًا للحظة تحطم المركبة، في محاولة يائسة لكسر الحلقة، والخروج من الدوامة الزمنية المتكررة بلا نهاية.
توظيف الحلقة الزمنية في الفيلم ولعبة الفيديو كان توظيفًا فنيًا ودراميًا، ولكن لم يطرأ على بال متابعي الفيلم أو عشاق لعبة الفيديو، أنهم أمام عقيدة دينية تعود جذورها للعصر اليوناني القديم، هذه العقيدة الدينية تمثل ركيزة أساسية في فكر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، تعرف هذه العقيدة بمفهوم (العود الأبدي)، وهي تمثل امتدادًا لفلسفته الشهيرة المعروفة بـ(فلسفة القوة)، وتؤكد أن عداء نيتشه للمسيحية كان عداءً عقديًا ودينيًا بالدرجة الأولى؛ لأن مفهوم المسيحية لحركة التاريخ يتعارض مع عقيدة (العود الأبدي)، التي قامت على أساس أسطوري لا يمت للعلم أو المنطق بصلة.
يقول يسري إبراهيم الباحث في فلسفة نيتشه: «ويمكننا أن نجد في فلسفة نيتشه ما يدل على أن العود الأبدي يعني أن العالم يمر بدورات لا متناهية، وتظل هذه الدورات تتكرر إلى الأبد خلال الزمان اللامتناهي، كل منها مماثلة للأخرى في كل صغيرة وكبيرة».
توصف فلسفة نيتشه غالبَا بأنها تشاؤمية، وسمة التشاؤم لا تعود لكونها ضد الإيمان أو الأديان، ولكن لأنها تؤمن بعقيدة دينية تفرض على معتنقها الإحساس بعبثية الوجود، وتقوده تجاه اليأس وفقدان المعنى، وبالتالي الوقوع في شراك العدمية، وكما ذكرنا في مقالتنا السابقة أن عقلية نيتشه مشبعة بالأساطير اليونانية، وهذا ما يجعله يتبنى معتقداتها وطقوسها، وفي المقابل يرفض ما يضادها في الديانة المسيحية، فالإيمان بأن الوجود وما يتخلله من أحداث يتكرر بصورة أبدية لا نهاية لها، تنتج عنه حالة نفسية تميل تجاه الإحساس بعبثية الوجود والتشاؤم وفقدان المعنى، وهو إحساس كل من رائدة الفضاء في لعبة الفيديو (Returnal) والجندي المتقاعد في فيلم (Boss Level) نفسه.
فهل يمكن اعتبار فلسفة (العود الأبدي) عقيدة دينية أو نظرية ذات أبعاد منطقية وعلمية؟ بلا شك نحن أمام عقيدة دينية أو بمعنى أصح خليط من العقائد والأساطير ذات التاريخ الغارق في القدم، ونيتشه هنا يحاول تأويلها وإحياءها ومنحها أساسًا منطقيًا وعقليًا، يقول يسري إبراهيم واصفًا رأي هرقليطس في العود الأبدي: «وازدادت الفكرة وضوحًا عند هرقليطس: فالنار في رأيه، وهي عنصر الكون الأساسي، تلتهم العالم بين فترة وأخرى، فيعود العالم بعد ذلك عودًا مماثلا لصورته السابقة، وذلك خلال دورات معينة من الزمان، كذلك قال أنبادوقليس بتتابع أبدي لعوالم متتالية تكون ثم تفسد».
هذه الأسطورة اليونانية هي عين الفلسفة النيتشوية، وهي تتعارض جملة وتفصيلا مع مفهوم المسيحية لحركة واتجاه الزمان، فالموت والفناء وسيلتان للعبور للعالم الأخروي، فالكون نتاج خلق لا نظير له، لا يعود ولا يتجدد، من حيث أنه بدأ في زمن محدد وينتهي في زمن محدد كذلك، فهو ليس لا متناه، فالزمن في المسيحية وفي بقية الأديان السماوية يقوم على أحداث متجددة وغير قابلة للتكرار، بعكس ما يعتقده نيتشه ويؤمن به، وهذا ما جعل نيتشه يهاجم المسيحية هجومًا شرسًا لأنها تتعارض مع كل الأساطير والخرافات التي آمن بها، وكرس حياته في محاولة تأويلها.