يعرفنا خبر نشر مؤخرًا في هذه الصحيفة على ارتفاع مسميات الشوارع ولوحاتها مقارنة بالعام الماضي، ويمضي الخبر في التفتيش عن المفيد من الإحصائيات المأخوذة أصلا من تقرير وزارة الشئون البلدية والقروية، فيصف لنا تقدم المنطقة الشرقية على سواها في مجموع لوحات الشوارع المسماة، بينما منطقة جازان تستأثر بالحصة الأكبر من الشوارع المسماة، وبين عبارة وأخرى ستجد سيلا من الإحصائيات التي تشعرك بأن ثمة تنافسًا بين المناطق، وأن التسارع يشير إلى تنام عمراني واتساع في رقعة المدن والأحياء ما يستوجب فتح معاجم اللغة قبل فتح الشوارع والأحياء لإيجاد أسماء جديدة.

أقول إنها «تشعرك» من باب الاحتياط، لأن الخبر يأخذنا في شهيق الأرقام وزفيرها دون شرح، فلا نعلم إن كان العمل الكبير في الشرقية هو لاستدراك ما فات من الواجبات السابقة، أو استكمالا لفروض قادمة، كما لا نعلم عدد الشوارع أصلا ولا اللوحات المطلوب إنجازها، لكن كل ذلك لا يهم، فما يهم أمثالي من هكذا خبر عابر أن أتخيل طبيعة الجهد الذي يستوجبه البحث عن أسماء جديدة، وعن احتمالات الإبداع والتجديد التي يمكن أن تمضي إليها هذه العملية، وأنا أعلم بأن هنالك ضوابط وأدلة ومراجع يجري اعتمادها في التسميات.

ولأننا نمضي الوقت في التنقل في تلك الشوارع، نعرف تمامًا التقاليد المتبعة في التسمية، فالأولوية عادة لأسماء الشخوص التاريخية والرسمية البارزة، وهو التقليد الأبرز في أغلب دول العالم، وبما أن أسماء الشوارع هي بمثابة نصوص المدينة، يمكن اكتشاف هوية مدننا من كشاف الأسماء التي تتزين بها الشوارع الرئيسة والفرعية، فلو جاء عابر من مكان ما سيدرك بأن الأسماء تأتي غالبًا من شرفة الدين والتاريخ، وهذا ما يهب رموز الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام حضورًا طاغيًا في شوارعنا. تتنوع الأسماء وتظل تشير ببوصلتها إلى ذاكرة بعينها، لأن الراسم لها يرى أنها الطريق الذي ينبغي أن يمشي فيها الناس، ساعة يريدون التزود من ذاكرتهم والارتواء من هوياتهم.


وفي تخطيط الأحياء، حيث الاحتمالات تتسع أكثر على مستوى التسمية، لا يمكن القطع بوجود معيار معين يحكم التسميات لشوارع الأحياء، أو ثيمة ما يجري اعتمادها ساعة التخطيط، فقد تجد شارعًا في واحدة من أحياء الدمام يحمل اسم شاعر عربي دون أن تجد الشعر ثيمة للحي، بينما سيأخذك شارع الأندلس في حي بالخبر إلى شوارع تلوح بكل تراث الأندلس ورجالاتها، هذا الهارموني الذي يصوغ أسماء الشوارع في الحي الواحد لم يترسخ بعد كصفة لازمة في كل الأحياء، ربما للاختلاف في إستراتيجيات البلديات المحلية، أو لصعوبة الإبداع في إيجاد الأفكار والثيمات اللازمة.

باعتقادي أن للمدن هويات متعددة، اجتماعية وثقافية واقتصادية، يمكن أن يعاد استثمارها للتعريف بالمكان من خلال مسميات الشوارع، تسميات مشحونة برائحة المكان، وذاكرة الإنسان، تسميات تدخلنا المدينة أو الحي فندخل معها إلى غور ذاكرته، فنشعر بتمايز المكان ونتعرف على علاماته، بالإمكان مثلا استثمار الهوية الاقتصادية كالحرف والمهن في مسميات الشوارع للتدليل على هوية المكان، بالإمكان الإحالة على الطبيعة الطبوغرافية والمميزات البيئية حتى، فهذه الوظيفة الرمزية التي نريدها من مسميات الشوارع يمكن أن تحمل وجوها عدة، وتحقق غايات مختلفة، متى ما وسعنا دائرة التفكير، وتركنا سقف الأفكار مفتوحًا، ليغرف العاملون في البلديات من أشياء أخرى أوسع من المعجم، أشياء تشبه الحياة، وتشبه الإبداع والابتكار، وتشبه التأسيس لرؤية جديدة لعلاقة الناس بأسماء شوارعها.