بداية القرن السابع عشر، ظهر في بريطانيا وهولندا نظام «الرأسمالية»، والهدف منه تعزيز أسس العيش الإنساني، وهو نظام اجتماعي يغيب فيه التدخل الحكومي في الاقتصاد، بهدف التبادل التجاري وخلق السلع وإنتاج الخدمات من أجل الربح والمداولة بين الدول. ولا تهتم الرأسمالية بأن يكون القانون فيها أخلاقيا، الأهم هو ما يحقق لها المنفعة المادية أولاً، ولها عدة أشكال منها: التجاري والصناعي والاجتماعي، علمًا بأن وجودها في حياتنا أخذ سياقات متنوعة ومتجددة، لذلك فهي تدعو إلى الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وتدعم تعدد مصادر الدخل بلا استثناء، ولا يهم لديها ما الطريقة التي يُـجنى بها المال، كما أنها تدعم نظام الحرية بالأسعار، وتعتمد قانون السعر المنخفض في سبيل الترويج، مثل: عبارة «الشحن مجانًا» في الوقت الحالي، وبلا شك هي عبارة ناجحة في أسلوبها التجاري والتسويقي. وعلاوةً على ذلك فهذا النظام يدعم الحرية من خلال الاستفادة من طبقات المجتمع حتى لو كان عن طريق التطرف والخروج عن المتعارف عليه قولاً وفعلاً، لذلك فإنَّ السؤال الأهم: ما الرابط بين الرأسمالية وظواهر التسول في وقتنا الحالي؟، هل هناك خيوط تواصل والتقاء بين المجالين؟.

في هذا السياق، اختلفت طرق التسول في العالم، وتعددت مظاهره ودوافعه وأسبابه، فمنها: التسول في «وسائل التواصل الاجتماعي»، والتسول «التقليدي بشكل مباشر»، و«التجاري المقنع»، فما الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لظاهرة المتسولين، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ علمًا بأنَّ المعنى اللغوي للتسول الإلكتروني يدور حول الإغواء، وهو جمع المال من غير تعبٍ وجهدٍ، فوجودهم لنظام الرأسمالية هو أهم من وجود المتسول في الشوارع، وما يسمى بـ«الهوملس». وتجدهم في وسائل التواصل تختلف طرقهم وادعاءاتهم الكاذبة بالحاجة إلى التبرعات أو طرق استعمالهم لمواثيق وفواتير كاذبة، أو استغلال الأطفال واستعطاف الناس، وقد تتعرض إلى السرقة الإلكترونية عن طريق روابط تـسلب منك مالك عن طريق إعلانات تجارية كاذبة.

جميع هذه الأنواع قد تعرضك للخداع والاستغلال بشكل أو بآخر، لذلك تعددت جرائم النصب والاحتيال في العالم الرقمي من حولنا وبأبسط الطرق وأغربها، وما زالت الجهات المختصة تنبه وتحذر مرارًا وتكرارًا بعدم التعامل معهم.


ومع التطور الصناعي والاجتماعي الحديث، والحاجة إلى المادة بشكل أساسي ومهم، تغيرت نظرة المجتمع السطحية عن السابق، متجهةً إلى النظرة المادية، فقد تتعرض إلى حكم ما بسبب وضعك المادي!. وبالطبع مع الغلاء المعيشي فإنَّ من المهم أن تكون المادة من أساسيات هذه الحياة للاستمرار، والحصول على النفوذ والقوة والسلطة، ولأن هذا الشعور محبوب ومرغوب لدى النفس البشرية، فالجميع يبحث عن طرقٍ متنوعةٍ للحصول على المال، ولا تهم الطريقة وكيفية الحصول، المهم بأن يكون طريقاً سهلاً بلا مجهودٍ وعناءٍ يـُذكر. لذلك بات الحصول على المال في الوقت الحالي عبر وسائل التواصل لا يحتاج إلى تعلمٍ وذكاءٍ ودراسةٍ وشهادات ومشاريع تجارية، فقد يصل الإنسان إلى الثراء المادي من خلال قناة يوتيوب أو حساب في أحد منصات التواصل؛ بشرط أن يتخلى صاحب هذا التوجه عن منظومة المبادئ والقيم والخصوصية، وممارسة أدوار غير واقعية ووهمية بأساليب مُـلتوية، حيث من الممكن أن يتحول الإنسان البسيط إلى مشهور يملك عددًا من المتابعين وقاعدة اجتماعية مُـبهرة، ومن فقير إلى ثري خلال سنوات معدودة، بكلمةٍ واحدةٍ ساذجة بأسلوب مُبتذل. وعليه فقد تعددت مجالات التسول، وبالتالي أنت الضحية، لأنك أنت «المشاهد» الذي يُطلب منك المال بالدعم والشحن والمتابعة، ورغم أنَّ هذه الطرق لا تختلف عن التسول التقليدي وبعضها غير قانوني، فقد تنتابك الحيرة من هو المحتاج الحقيقي للمال!

وعلى هذا فقد لا يكون التسول نابعا من الحاجة إلى المال أو الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يسمى بالاستكثار، وهو بحثٌ عن المال من أجل الكثرة، وليس من أجل الحاجة التي ألمّت به، فالبعض تجده يملك رؤوسًا من الأصول الثابتة ووضعه المادي مستقر، ولكن رغبته الملحة للكثير من المال تجعله طامعًا للمزيد.

وفي نهاية الأمر، يقول كارلوس ثافون: «لن يفنى العالم بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، بل إن الابتذال والإفراط في التفاهة سيحول العالم إلى نكتة سخيفة»، لذلك فإنَّ ظاهرة التسول تهدد أمن المجتمع واستقراره واختلال منظومة القيم. لذا علينا جميعًا السعي إلى كرامة النفس وإعلاء حقها في الحصول على المال؛ وذلك بطرق أخلاقية وشريفة ونزيهة بعيدًا عن ادعاءات غير حقيقية.