فتح قرار (مكافحة الكراهية الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداء أو العنف) الصادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الثالثة والخمسين بجنيف أبواب الأمل في إمكانية اضطلاع الأمم المتحدة وبقية المؤسسات العدلية الدولية بدورها لإصدار تشريع قانوني صارم وملزم يمنع الإساءة للشخصيات والمقدسات والرموز الدينية ويضع ذلك الفعل الاستفزازي تحت طائلة الأفعال التي يعاقب عليها القانون.

القرار الذي صدر خلال الأسبوع الماضي يمثل - من وجهة نظري - أرضية صالحة للبناء عليها، ويشكل خطوة مهمة نحو مزيد من التنسيق الذي أتمنى أن نشاهده خلال الفترة المقبلة لإصدار قرار ملزم يضع حدًا لاستفزاز المؤمنين حول العالم ويلجم دعاة العنصرية والفرقة والتشرذم ويوقفهم عند حدودهم.

كما يشكل حلقة جديدة في سلسلة المساعي الرامية لوقف المحاولات المفتعلة التي تقوم بها بعض الدوائر المشبوهة والأحزاب ذات الإيديولوجيات المتطرفة لاستمرار حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها الكثير من دول العالم بسبب تواصل تلك التصرفات العبثية التي ما إن تتوقف اليوم حتى تُستأنف في الغد لتعيد العالم إلى نقطة البداية مرة أخرى.


وبمثلما كان القرار التاريخي مكسبًا قانونيًا للدول الإسلامية، إلا أنه يشكّل انتصارًا دبلوماسيًا بصورة خاصة للمملكة العربية السعودية التي دعمته ونشطت خلال الفترة الماضية في حشد التأييد الدولي له، وسخّرت مكانتها المتميزة وما تتمتع به من ثقل سياسي لضمان تمريره، وهو ما قاد لتحقيق تلك النتيجة المبهرة. هذا الموقف المشرف يضاف للجهود السعودية المتواصلة لتعزيز التسامح والتصدي لدعوات الكراهية والإقصاء.

ومع أن هذه الإدانة ليست ملزمة للدول ولا تفرض عليها اتخذ تدابير وقائية تمنع الإساءة أو تعاقب مرتكبيها، وليست كافية في حد ذاتها، إلا أن هناك إشارات ودلائل عدة حملها نص القرار وتوقيت صدوره ينبغي التوقف عندها وقراءتها لاستخلاص العبر التي تكمن بين السطور والاسترشاد بها لمعرفة كيفية استغلال نقاط القوة فيه.

أولى تلك الدلالات هي أن القرار يكتسب أهمية رمزية كبيرة كونه صادرًا عن مجلس حقوق الإنسان بجنيف. وصدور القرار عن هذه المؤسسة الحقوقية ذات الشخصية الاعتبارية المرموقة يفنّد الادعاءات التي تكرّرها بعض الدول بأن التجاوزات التي تصدر بحق الأديان تدخل ضمن الحقوق الأساسية للإنسان ومن ضمنها حرية التعبير.

لذلك فإن صدور هذا القرار من المؤسسة الدولية الأولى المنوطة بحفظ حقوق الإنسان على مستوى العالم بهذا الوضوح غير المسبوق أبطل بصورة عملية تلك المزاعم غير الحقيقية وألغى ذلك الربط المفتعل بين الإساءة للآخرين وحقوق الإنسان التي يريد البعض اتخاذها ذريعة لتمرير أجندتهم الخاصة وتبرير أفعالهم المرفوضة. لذلك حتى لو لم يتم تطبيق القرار فهو يعتبر نصرًا قانونيًا كبيرًا كونه صادر عن مجلس حقوق الإنسان بجنيف، وأسهم بدرجة كبيرة في إضعاف حجج من يتذرعون بالدفاع عن تلك الحقوق.

الدلالة الأخرى هي أنه رغم التحركات المناوئة المستميتة لمن يريدون استمرار الإساءات ويتمسكون بأن يظل العالم في حالة تشنج، ويشجعون على استمرار هذه التصرفات العبثية، إلا أن تحركات الكتلة الإسلامية والدول المحبة للسلام في مجلس حقوق الإنسان استطاعت تمرير مشروع القانون وحشد الأصوات اللازمة لإجازته، وفي هذا انتصار معنوي وتشريعي كبير ستكون له حتمًا تداعيات إيجابية أخرى كثيرة في المستقبل القريب بإذن الله بما يضمن استمرار التنسيق العربي والإسلامي في المؤسسات الدولية.

ربما يرى البعض أن القرار قد تم تمريره بسبب الأغلبية الواضحة للدول الإسلامية في مجلس حقوق الإنسان - وهذا صحيح إلى حد ما - لكن لا ينبغي أن نتجاهل أن تحرك تلك الدول بشكل مكثف نجح في تحييد أصوات سبع دول امتنعت عن التصويت أو أعلنت أنها بحاجة إلى بعض الوقت لإعادة تحديد موقفها، وهذا يعكس نجاحًا دبلوماسيًا بارزًا.

كذلك كان لافتًا أن القرار لم يكتف فقط بمجرد إدانة حرق نسخ من المصحف الشريف، لكنه أكد بوضوح عدم توافق ذلك الفعل الاستفزازي مع التشريعات الدولية لأنه يشكّل انتهاكا للقانون الدولي لحقوق الإنسان، ودعا الدول الأعضاء في المجلس إلى مراجعة قوانينها وأنظمتها وسياساتها لسد الثغرات التي تعوق منع أعمال الكراهية الدينية.

المؤسف حقيقة هو حالة التناقض التي تعاني منها بعض الدول الغربية، فبالرغم من معارضتها العلنية ورفضها للإساءة وإدانتها حرق المصاحف والاستهزاء بالثوابت الدينية، فإنها لم تتردد في تغيير مواقفها ووقفت ضد مشروع القانون عند عرضه على مجلس حقوق الإنسان بزعم الدفاع عن الحريات والحقوق، وهذه الدعاوى الزائفة تعتبر بمثابة تشجيع للكثير من المتعصبين الذين كانوا السبب في حدوث الفوضى والاضطرابات التي تنتج كرد فعل على الإساءة للأديان.

لكن الحقيقة الواضحة هي أن تلك الدول تتخذ هذه المواقف لتحقيق أهداف حزبية وانتخابية خاصة بها وليست لها علاقة بقضايا حقوق الإنسان، والدليل على ذلك أن هذه الدول نفسها تعاقب من ينكر المحرقة اليهودية أو يعارض حقوق المثليين.

ويبقى الأمر المؤكد هو أنه حتى إن لم يتم أخذ هذا القرار موضع التنفيذ، إلا أن الجهود الدولية الرامية لمنع الإساءة للمقدسات الدينية سوف تمضي قدمًا، فالعالم يحقّق تقدمًا ملحوظًا في طريقه نحو اجتثاث آفة الإرهاب وهزيمة الجماعات المتطرّفة مثل تنظيمي القاعدة وداعش، وهو ما يستلزم بالضرورة القضاء على مبرّرات تلك التنظيمات التي تتذرّع بالدفاع عن الإسلام لتبرير عملياتها الانتحارية.